كي لا ننسى.. نسيب الصالحي.. شهيد رصاص الغدر

جريدة النور

يونس صالح:

لم ينتَبني الحزن سابقاً إلا في حالات قليلة، كما انتابني عندما جاءني نبأ سقوط مناضل تنويري شاب هو نسيب الصالحي، برصاصة طائشة وهو يسير في أحد شوارع دمشق. ولم يعرف مصدر هذه الرصاصة، هل هو عبث ممن قد استهانوا بحيوات الناس، مدفوعين بالغرائز الوحشية الكامنة، أم أنه عمل مقصود كان يستهدف حياة هذا الشاب؟

فمن هو نسيب الصالحي؟

إنه ابن أسرة مثقفة يعود منبتها إلى لواء إسكندرون السليب، وقد هاجرت منه بعد أن أُلحق بتركيا نتيجة مؤامرة كبرى أقدم عليها الاستعمار الفرنسي، بهدف جرّ تركيا إلى صفوف الحلفاء على أعتاب الحرب العالمية الثانية، وكذلك بسبب الاضطهاد الذي لحق بالسوريين على يد المحتلين الأتراك.

في هذه العائلة المثقفة والوطنية التي استوطنت دمشق، ولد نسيب في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، ودرس وتعلم في مدارس العاصمة، وعاش أجواء الحركة الطلابية بكل صخبها وتوهجها، ولقد دفعته ثقافته وحبه للمطالعة وتأثره بالانتصارات الكبيرة التي حققتها حركات التحرر آنذاك، بدعم من الاتحاد السوفييتي المنتصر في الحرب العالمية الثانية، أن ينتقل تدريجياً إلى صفوف الحركة العمالية النشطة آنذاك في سورية، والمشاركة بصورة فعالة في النضال الاجتماعي والوطني والسياسي للشعب السوري، من أجل تعزيز الاستقلال الوطني وتحقيق التنمية الاقتصادية في البلاد.

وينخرط الشاب نسيب الصالحي في صفوف الحزب الشيوعي، قبل أن تتاح له الظروف لمتابعة دراسته في فرنسا بفترة قليلة، في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي. وهناك في بلاد الغرب ينضم إلى المنظمة الطلابية للحزب الشيوعي السوري، ويصبح عضواً نشيطاً في صفوفها، موزعاً وقته بالتساوي بين دراسته وعمله التنويري والسياسي والفكري بين أوساط الطلاب السوريين والعرب الذي يدرسون هناك. وتأتي الوحدة بصورة سريعة وغير مدروسة، وتجري حملة عاتية على القوى التقدمية والديمقراطية في سورية ومصر، ويزجّ بالألوف في السجون دون محاكمات وبصورة تعسفية، وتجري تصفية جميع المكتسبات الديمقراطية التي حققها الشعب بتضحياته الجسيمة، وتتشوه صورة الوحدة التي كانت أملاً لملايين الناس في سورية ومصر. وكان من الطبيعي أن تهب القوى الديمقراطية العالمية للدفاع عن الشعبين السوري والمصري، وتنتشر حملة تضامن واسعة مع قوى الحرية في كلا البلدين في جميع أنحاء المعمورة، وقد كان لمنظمة الحزب الشيوعي السوري في فرنسا دور بارز في تصعيد هذه الحملة لتشمل قطاعات واسعة من الشعب الفرنسي من عمال ومزارعين ومثقفين، ولأجل تعزيز النضال الديمقراطي لشعبي كلا البلدين، تتوحد منظمة الحزب الشيوعي السوري مع شقيقتها المصرية، ليصبحا منظمة واحدة وليخوضا النضال معاً، من اجل استعادة الحريات في كلا البلدين.

كان نسيب في طليعة الطلاب الذين كانوا يخوضون معركة من أجل وقف العسف والاضطهاد في مصر وسورية، يقوم نسيب ورفاقه بزيارة أبرز مثقفي الشعب الفرنسي أمثال جان بول سارتر، ولويس أراغون وغيرهما، من أجل الحصول على تضامنهم مع شعبي كلا البلدين، ويلعب نسيب دوراً هاماً في تنظيم الاجتماعات والمسيرات التضامنية، الأمر الذي أدى إلى صدور أوامر باعتقاله من قبل الأجهزة الأمنية في حال قدومه إلى سورية.

لقد أدت السياسة المعادية للديمقراطية التي انتهجتها السلطات أثناء الوحدة إلى انهيارها السريع، وهذا ما كان قد نبّه له الحزب الشيوعي السوري، إلا أن ذلك لم يحظ بالاهتمام من قبلها.

انهارت الوحدة سريعاً، وقرّرت منظمة الحزب إرسال نسيب إلى سورية، لإقامة اتصال مع الحزب، وتقديم مساعدة مالية لدعمه كانت قد جمعتها المنظمة. يُعتقل نسيب من قِبل سلطات الانفصال ويزجّ به في السجن بناء على التعميم السابق، وجرى إخراجه بكفالة مالية من قبل أهله.

ولقد كان لي شرف استقباله إثر خروجه من السجن، إذ كنت قد تعرفت به قبل ذهابه إلى فرنسا، كان الاستقبال حاراً، وطلب مني إيصاله بالحزب مباشرة، ولكني رفضت، وطلبت إليه أن يجتمع بأهله أولاً، ولكنه أصر على ذلك، وهذا ما حدث. كان يشعر أن الحزب بحاجة ماسة إلى الدعم، وأقله بالمال. لقد ذهب مباشرة لإيصال تبرعات رفاقه إلى القيادة، حرصاً منه على تنفيذ أول مهمة له في سورية، وذلك قبل أن يلتقي أهله وأصدقاءه.

أي شعور بالمسؤولية كان يملأ كيانه! وأيّ همٍّ كان يغمره!

إن الوطن والشعب كانا بالنسبة له أهم من أي شيء آخر، كانا هاجسه الأبرز.

لقد قطعت رصاصة طائشة حياة هذا الشاب المفعم بالأمل، والمفعم بالنشاط وإنكار الذات، من أجل يعيش أناس بلده الكادحين بكرامتهم وعزتهم.

العدد 1105 - 01/5/2024