عائد إلى اللاذقية

جريدة النور

صفوان داؤد:

قلت له: أيها العجوز الطيب، منذ أكثر من عشرين عاماً ومحافظة اللاذقية هي هي، كما تركتها، لم تتغير ولم تتبدل، ولم يطرأ عليها أي تطور إيجابي يمكن ملاحظته. مازالت العشوائيات، والأسطح المُخالفة تنقضّ عليك. الحفر تملأ الشوارع، النفايات على الطرقات، المُللصقات تراها حتى على حاويات القمامة، طوابير الناس مجتمعة لتحصل على خدمة حكومية.

لأكثر من عشرين عاماً قبل العشرين عاماً التي غبت فيها عن هذه المدينة، وخلال هذه المدة الطويلة تعاقب آلاف المسؤولين الحكوميين من أمناء فروع ومحافظين، ورؤساء مجالس محلية وبلديات ومديري مؤسسات وشركات حكومية، لكن لم يتغير شيء، بقيت خدماتها العامة كما هي، وبقي شعبها يعاني ضعف التنمية وسوء الأوضاع. وكما كانت، بقيت المؤسسات الحكومية في هذه المحافظة تقوم على ثلاثة قوانين: لا أحد يعمل بجدية، لا أحد يسأل، لا أحد يُحاسب، فالعصابات التي تقودها عائلتان أو ثلاث من ذلك (المكان الذي اسمه معروف) قد أتقنت أساليب التربية المافيوية الحديثة في معاقبة من يخالف هذه القوانين الثلاثة.

جاوبني: يا بني، أنت العائد من الغربة، لا يمكن فصل الفعل المادي للفساد عن النظام الإداري المحلي السائد، حيث يزدهر الفساد، فكلاهما في ظل غياب القانون يحفز الآخر، في بنية تقليدية لا تعرف سوى اجترار العمل غير الشرعي، فالعقلية المافيوية تنسخ قوامها وتعيد إنتاج نفسها من الأب إلى الابن، والآن إلى الحفيد. إعادة إنتاج الذات بالقلب نفسه لكن بقالب مختلف. أذكُر يا بني أن أفراد عصابة الجد كانوا يضعون المواد المهربة من اسلحة وحشيش في (باكاج) السيارة ويضربون أو يطلقون النار على أي سيارة مدنية تزعجهم في الطريق، هكذا على عينك ياتاجر. ثم بعد أن قامت قوات من الجيش بحصار ذلك (المكان الذي اسمه معروف)، وفرطت مسبحة هذه المافيا لفترة قصيرة، بدأ الأب يخبئ المهربات في السيارة دون أن يزعج أحداً، لكن الزمن تغير يا بُني.. أنت تعلم… كَثُر الأحفاد ولم تعد تجارة التهريب تكفيهم، فقاموا بتقسيم موارد هذه المحافظة فيما بينهم. فمنهم من بقي يعمل في التهريب بشكل غير شرعي. ومنهم من اشتغل في الإتاوات، هكذا يوظفون أشخاصاً ذوي خلفيات إجرامية جنائية تأخذ الإتاوات على كل شيء يتعلق بالتجارة، مثلاً مبلغ معين على كل شاحنة خضار تخرج أو تدخل إلى سوق الهال، في مقابل أن لا يقرر زعيمهم، وهو من ذلك (المكان الذي اسمه معروف)، تكسير شاحنة الخضار التي لا تدفع أو حرقها. أما القسم الأخير من الأحفاد، وهم الأكثر رقيّاً، فيعملون في مهنة الشريك. شريك ميسّر في مشروع ما، بمعنى أن المستثمر يُقدم رأس المال الذي يكون بعشرات الملايين، في مقابل أن يدخل الحفيد باسم عائلته فقط! نعم، لأن نسبته تجعل أي إجراءات إدارية أو مالية حكومية ميسرة ومنجزة بسرعة فائقة، وهو يضمن أيضاً، باسم عائلته، تهرّب المشروع من الضرائب ودفوعات الكهرباء والماء وما إلى ذلك. هذه حقيقة ومن المعجزات الاقتصادية التي تتفرد بها هذه المحافظة. إن أي مشروع هو ناجح بوجود شريك من تلك العائلة، وهو فاشل إذا لم يكن كذلك. هذه العائلات من ذلك (المكان الذي اسمه معروف) حَصّنَت عقلية الفساد وجعلتها ثقافة في محافظة اللاذقية، وتواطأ معها النظام الإداري المحلي، فبتنا نرى الفساد ونسمع عنه ونعاني منه كل يوم وكل لحظة.

قلت له: أيها العجوز الطيب، لقد زرت الإسكندرية ولم يسمّها أهلها إسكندرية العرب، وزرت فلورنسا ولم يسمّها أهلها فلورنسا الرومان، وزرت مرسيليا ولم يسمّها أهلها مرسيليا الإفرنج، وزرت أنطاليا ولم يسمّها أهلها أنطاليا بني عثمان، فقط هنا وجدت: لاذقية العرب، بدلاً من اللاذقية، ووجدت خدماتها وتنظيمها بمثابة عارٍ على أخواتها من تلك المدن التي زرتها على البحر المتوسط.

قال لي: هذا صحيح يا بني، هنا ضحكوا على شعبهم بالشعارات البراقة، وبأموال ما سرقوا وارتشوا، علًموا أولادهم، واشترت زوجاتهم من بلدان هذه المدن التي ذكرتها. ونحن أهل هذا المكان، نعلم أن اللاذقية، وعلى مدى عقودٍ عجاف، ابتُليت بعجول نطاح لا دواء لإشباعها ولا داء، هم رهطٌ من المسؤولين الفاسدين والناهبين والمارقين والناكثين والمطبلين والمزمرين والانبطاحيين والمخربين الذين حنثوا بقيمهم الوظيفية والدستورية، فأصبحوا لصوصاً فوق القانون، حتى عجزت جميع أنواع الرقابات التشريعية والتنفيذية القادمة من العاصمة دمشق، على مدى عقود، أن تضبط هنا مسؤولاً كبيراً متلبساً بالفساد، كما عجز مجلس الشعب عن فضح أي من المتورطين أو حتى مساءلتهم. والعشوائيات الفقيرة والغابات المقطوعة والشواطئ المُحتكَرة في اللاذقية على ما أقوله شهيد. فعد إلى غربتك، يا بني، فالوطن هو حيث يكون لك كرامة.

هكذا، وبعد عدّة أيام، وأنا متجه إلى مطار بيروت عائداً إلى غربتي، شاهدت سيارة دفع رباعي حديثة أمريكية الصنع تسير بسرعة فائقة، وخلفها سيارة مرسيدس فيها عناصر مسلحة تتجاوزان شاحنة عسكرية من نوع (زيل)، وهي شاحنة تعود إلى العهد السوفييتي من ستينيات القرن الماضي، تحمل جنوداً متعبين من الجيش السوري. قلت لسائق التكسي: من هذا الذي في سيارة الدفع الرباعي المُسرعة؟ قال لي: هذا فتىً من ذلك (المكان الذي اسمه معروف).

العدد 1105 - 01/5/2024