ما وراء استحضار التاريخ والتراث؟

غياث رمزي الجرف:

((إلى العلامة الدكتور أحمد جميل عباس))

(إننا نحن الملوك نجلس على عرش الله على الأرض)_ جيمس الأول، ملك إنكلترا

(أيها الناس: إنما أنا سلطان الله في أرضه)_ أبو جعفر المنصور، الخليفة العباسي

كتب الناقد الدكتور (عاطف البطرس) مقالة قصيرة عن أبي العلاء المعري، وطرح، في أثنائها، سؤالاً هاماً وإشكالياً: ما الحاجة والفائدة من استحضار شخصية تاريخية للتحدث عنها في زمن تطغى فيه الهمجية، وينتشر الفكر الهدام، وتشتد العدوانية؟

وأجاب الدكتور البطرس عن سؤاله قائلاً: شخصية المعري في الثقافة العربية قابلة للنمذجة، لأنها استطاعت التقاط القيم تاريخياً في عصرها، وفي استشراف امتداداته المستقبلية، وهو من الشعراء العرب القلائل في العصور الغابرة الذين امتلكوا رؤيا شبه متكاملة للحياة وللمجتمع وللطبيعة (انظر: د. عاطف البطرس، جريدة النور_ العدد 665)

وأنا، كاتب هذه السطور، أسأل: هل هناك حاجة وفائدة وجدوى من الوقوف بين يدي التاريخ والتراث، واستحضار بعض شخصياته وأعلامه وصفحاته ومحطاته؟ أترك الإجابة للقارئ الحصيف بعد أن يقرأ ما كتبناه، وفيه مساحة للرأي والأخذ والردّ.

 

(1)

مؤسس الدولة/ الخلافة الأموية ورجلها الأول معاوية بن أبي سفيان (المكيافيلي) بامتياز على صعيد الحكم وعلى الصعيد الشخصي، المرن واللين ظاهرياً، الحازم والحاكم المطلق والقاطع باطنياً، السياسي المحنك الذي أسّس (ملكه) باقتدار ودهاء ومعرفة ودراية، وكان الاحتكام إلى السيف ناموسه، و (إن لله جنوداً من عسل) من مفردات (سلطته) الجوهرية، عندما أراد (معاوية)، على ذمة الرواة، أن يأخذ البيعة لابنه يزيد (لا نجد ضرورة، ها هنا، إلى أي تفصيل، أو توضيح وكلام عن يزيد بن معاوية، فالرواة وكتّاب التاريخ قديماً وحديثاً لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة تتعلق به إلا دونوها في بطون الكتب وحواشيها) عبر ديمقراطية تراثية عربية فذّة، دعا زعماء القبائل وطلب منهم التأييد وإعلان البيعة. فراح كل واحد منهم يلقي خطبته، ثم ينهيها بتأييده وإعلان بيعته. ولما وصل الدور إلى زعيم قبيلة مغرقة في البداوة، وقف هذا الأخير، وحدّق في الجموع والحشود، ثم قال بصوت بدويّ مجلجل: أمير المؤمنين هذا (معاوية بن أبي سفيان) ومن بعده هذا (مشيراً إلى يزيد)، ثم استلّ سيفه البتّار (مهدِّداً به من يرفض البيعة الغراء)، وقال: ومن لم يقبل فله هذا (السيف).

ولما سأل (معاوية) سيّد بني تميم (الأَحْنَف بن قيس) التابعي الذي عُرِفَ بالحكمة والحِلْم، عن رأيه في بيعة يزيد، أجاب الأحنف: أخاف الله إن كذبت، وأخافك إن صدقت(؟).

 

(2)

ونفتح (تاريخ الخلفاء) للسيوطي، ونقلب صفحاته المثيرة التي تدعو إلى التأمل العميق، وإلى التدبر وإعادة النظر مرة بعد أخرى، ونذكر ما يلي على سبيل المثال ليس غير:

(عبد الملك بن مروان) أحد أبرز رجالات الدولة/ الخلافة الأموية التي دامت (92) عاماً، ومؤسس البيت المرواني السلطوي الذي ورث البيت السفياني، بعد رحيل الخليفة الأموي الثالث (معاوية بن يزيد) خطب من على منبر الرسول في المدينة، بعد أن قام ذراعه الضارب (الحَجّاج) بقتل عبد الله بن الزبير وإخماد (الفتنة)، خطب قائلاً: (والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه)! ثم غادر المنبر الرسولي.

بعد عشرين عاماً من حكم عبد الملك بن مروان، وهو على فراش الموت، أوصى ابنه الوليد، فيما أوصاه، بالحجاج؛ لأنه العُرْوَة الوُثْقَى لحكمه (…) وقال: (إذا متُّ فشمّر وائتزر، والبس جلد النمر، وضع سيفك على عاتقك، فمن أبدى ذات نفسه فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه…).

ولعل من المفيد في هذا المقام الإشارة إلى أن الحجاج بن يوسف الثقفي (40-95 ه) هو قائد دموي داهية، وخطيب مُفَوَّه، وهو من أشهر ولاة بني أمية؛ ولّاه الخليفة عبد الملك بن مروان مكة، والمدينة، والطائف، ثم العراق. وكان دعامة قوية حاسمة لحكم البيت الأموي المرواني.

إن القول السائر المأثور (الولد سرّ أبيه) ينطبق على الوليد تماماً، فقد أخذ الوليد (الذي حكم البلاد والعباد بقبضة حديدية صارمة عشرة أعوام) الوصية بحذافيرها ونفذها جملة واحدة وبدقة يحسد عليها.

 

(3)

بقي في خاطري رواية حكاية صغيرة (أممية) وإن لبست لبوساً تراثياً، واتخذت العربية لغة لها، وسواء أكانت على سبيل الحقيقة أم المجاز.

تقول الحكاية: كان هناك سلطان من سلالة السلاطين الذين يعبرون البحار والمحيطات والمدن والبلدان والقارات وكل الأمكنة، والذين لا يقفون عند حدود أي زمن من الأزمان، كان يطلب هذا السلطان كل واحد تقول عنه (الرعية) بأنه عالم، أو فقيه، أو أديب، أو فيلسوف أو (مثقف): ويسأله السؤال التالي: أعادل أنا أم ظالم؟

فإذا أجابه واحد من هؤلاء: إنكَ عادل يا مولاي! قتله السلطان على الفور. وإذا قال أحدهم: أنتَ ظالم يا مولاي! ذبحه من الوريد إلى الوريد. وإذا قال آخر منهم: يا مولاي! أنتَ عادل وظالم في آن معاً، أهدر السلطان دمه بلا هوادة.

احتارت الرعيّة (والرعية هي الماشية/ الناس الذين تُرعى أمورهم وتُدَبَّر شؤونهم) في هذه المعضلة، وهذا البلاء الذي يفصل الرأس عن الجسد، وبعد مشقة في التفكير ومعاناة ومكابدة، توصلت إلى أن (جحا) هو وحده من يستطيع تخليصها من هذه المصيبة التي نزلت بها، وهذا البلاء الذي اجتاح كل ما يدبّ على الأرض. فذهبت إلى (جحا) مثقلة بالرغيف والخوف والخنوع، وقالت له: يا (جحا)! لن ينقذنا من هذا السلطان الدموي القاتل إلا أنتَ، فرحماك.. رحماك! نهض جحا، وانتصب، وشمّر، ووَلّى وجهه البلاط المفدى، ولما جاء دوره، وسأله السلطان العظيم: يا جحا! أعادل أنا أم ظالم؟ ردّ (جحا) مباشرة وبلا تردُّد: أنت، يا مولاي، لست سلطاناً عادلاً ولا ظالماً، والظالمون هم نحن (؟!) أجل، يا مولاي، الظالمون هم نحن، وما أنتَ إلا سيف العدل الذي سلّطه الله على أعناق الظالمين، بل على أعضائهم كافة، الظاهر منها والمستور. وأنتَ، يا مولاي، من قبلُ ومن بعدُ، سلطان الله في أرضه، الباقي بقاء الزمان، ونحن (الرعية) لسنا أكثر من عابري سبيل.

فرح مَليك الأرض والخَلْق فرحاً كاد أن يذهب برأسه المحروس، وقال: رائع، رائع، حقاً، حقاً! هذا هو الجواب الذي لم أسمع أجمل منه عبر حياتي السلطانية المباركة من السماء والأرض، ومن الجن والإنس.

وكان ما كان، أمر السلطان الجليل، الديمقراطي مُذْ كان يرفس في بطن أمه، المفكرين والمثقفين والكتّاب والشعراء والإعلاميين والمحللين الاستراتيجيين، الذين يمارسون العهر السياسي، والدعارة الفكرية، و(الميديا) المُخَاتلة في عزّ الظهيرة، والذين بينهم وبين الورق الأخضر (شبق) مقيم مثل شبق الذكر من الحيوان (للأنثى)، أمر بأن يبقى هؤلاء جميعاً في حظيرة القصر يدخلون وينصرفون (بجائزة سنية، وعطيّة هنيّة) مُطبّلين، مُزمّرين، متكالبين، متمايلين كالمومسات، وقائلين: (أصاب سيدنا، وصدق مولانا، ولله درّه، ولله بلاؤه، ما رأينا مثله ولا سمعنا من يقاربه! فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص!)_ على حد تعبير (أبو حيان التوحيدي) الأديب والمفكر الإشكالي.

ويبقى السؤال: هل وقتنا المعاصر والراهن يقع خارج دائرة الوقت الذي مضى؟ وهل اختلف يوم العرب، في جوهره، عن أمسهم؟

العدد 1104 - 24/4/2024