فضاءات ضيقة.. الواجب الوطني واحتياجات المثقف

د. عاطف البطرس:

الثقافة طريقة تفكير ونمط حياة، ولا يمكن الفصل بينهما، فالسلوك اليومي هو أحد أهم مظاهر الثقافة، والمصداقية التي هي التوافق بين ما نقول وما نمارس في حياتنا، تعزز ثقة الآخرين بنا، وتجعل آراءنا وأفكارنا محل احترام لدى القراء والمسؤولين في المؤسسات الرسمية والهيئات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني.

واجب المثقف الانغماس في قضايا مجتمعه ووطنه، فهو منارة ومركز هداية ما دام يقارب الحقائق ويدخل في عمق الظواهر تحليلاً وتركيباً واستنتاجاً، يؤسس لرؤية مستقبلية لمصير الوطن وتحديد هويته التي يدور حولها نقاش واسع في الأوساط الثقافية والسياسية.

هنا يبرز بوضوح وبحدة دور الثقافة والمثقفين وتزداد مهامهم إلحاحاً، وتتكاثر عليهم الحملات حول تقصيرهم أو غيابهم عن ساحات الفعل.

المثقف يعي واجبه، ويدرك دوره، وهو من يحدد أساليب خطابه وطرائق أدائه، وليس بحاجة إلى من يشير عليه، ويحرض الحص الوطني لديه، فعدم المشاركة والفاعلية لها أسبابها التي قد نختلف حولها، فمنا من يبرر ومنا من يقسو، ومنا من يهاجم، ويبقى الموقف من القضية الوطنية قيمة معيارية لا خلاف حولها.

المسألة ذاتية، يحددها وعي المثقف وحماسته، فإذا صمت فهذا لا يدعو إلى التشكيك بوطنيّته، وإذا علا صوته نقداً، فهذا لا يعني أيضاً أنه أصبح في صفوف المعارضة، وإن كان من طبع المثقف الاحتجاج والحديث عن السلبيات، فقد قال مكسيم غوركي: ولدت لأحتجّ.

مهما كانت الأسباب والدوافع، فالمثقف مدعو للقيام بواجبه الوطني الذي لا يحتاج من أحد إلى إيقاظه، ولكن أليس للمثقف حقوق مثلما عليه واجبات؟

قد يقول البعض في مواقع المسؤولية: في المنعطفات الكبرى تتقدم الواجبات على الحقوق، وهذا صحيح نظرياً ومنطقياً، ولكن تقدم الواجبات لا يلغي الحقوق.

من حق المثقف أن يتمتع بقدر كبير من الحرية في التفكير وفي التعبير، حتى ولو اختلف مع السائد من الأفكار والمواقف والاجتهادات، ومن حقه أيضاً أن يتمتع بحصانة تسمح له بحرية الحركة على أرض الواقع، كحصوله على المعلومات والبيانات التي تساعده في بحثه وتعزز آراءه، وتقربه من الحقائق.

ومن حقه أيضاً أن يوفر له الأمن النفسي وحد أدنى من الراحة والاستقرار، ليتسنى له التفكير ومعالجة القضايا التي سيساهم في حلها، فلكي تفكر يجب أن تعيش، وأخيراً وليس آخراً، لننظر إلى الوضع المادي (المالي) للمثقفين، كيف يعيش من امتهن الثقافة طريقة للتكفير ونمطاً للحياة؟ هل ثمة تناسب بين دخله وجهده؟

المثقف لا يبيع قوة عمله (إنتاجه) في السوق، لكنه لا يعيش خارج أنظمته وقوانينه، فلم يعد مقبولاً أن يتلقى مقابل ساعة بث على الهواء مبلغاً لا يكفيه بدل مواصلات ليقوم بتقديم واجبه كوطني، ولم يعد مقبولاً أن يتلقى المثقف مبلغاً لقاء مساهمة في مركز ثقافي لا يشتري له كتاباً، وأياً كان المبلغ لن يغير من حياته ولن يحسن وضعه المالي، لكنه مفيد معنوياً، ويشكل مساعدة تدفعه لبذل مزيد من الجهد لتجويد مادته وزيادة معارفه سعة وعمقاً.

قال ذات يوم ممدوح عدوان: عندما أذهب إلى مصلّح الأحذية ويطلب مني مبلغاً من المال يساوي جهده، لا يمكن أن أقول له إنني أتقاضى على إنتاجي الأدبي أقل من جهدي! عليّ أن أدفع. وأنا محترف كتابة، وأعيش من إنتاجي الأدبي والثقافي، فهل نلوم الراحل عدوان على موقفه أم نثني عليه؟

في الحرب العالمية الثانية قدمت الموازنة إلى تشرشل رئيس وزراء بريطانيا آنذاك، فاطلع عليها وتساءل: لماذا موازنة الثقافة ضئيلة قياساً إلى وزارة الدفاع؟ فاستغربوا السؤال وكان الجواب بسيطاً: نحن بحالة حرب يا سيادة الرئيس! فأجابهم بمن نحارب، أليس بالإنسان؟!

العدد 1102 - 03/4/2024