فلسفة التعامل الحكومي… الحكومة و»استحضار« هموم المواطن

سليمان أمين

 

لعلّ عبارة (هموم المواطن) عبارةٌ مألوفةٌ لدى بني البشر المنتمين إلى المصلحة العامة أو إلى أولئك المرتبطين بها من عامة الناس وخاصّتهم، سواء بطلب أو قضية أو موضوع ما يوضع أصولاً في المؤسسات والدوائر وحتى أكشاك (المخترة)، أما ميزة (مواطن بلا هموم) فإنما هي حكرٌ على الحكوميين. قضايا المواطنين لا تحتمل التأجيل. يتلكأ المدير أو رئيس الدائرة أحياناً في تعامله مع (هموم المواطنين) إذا لم يستوعب ما ورد إليه، وفي حال كان مواظباً وضمن فريقه (سكرتاريا) قديرة، يجري تنبيهه إلى الكتب التي رماها إلى أجل غير مسمى، فيستدعي أهل الذكر والخبرة ويضع الحاشية اللازمة أو غير اللازمة ويقصي الموضوع من لائحة الانتظار الإداري، ليصبح كتاباً رسمياً صالحاً برقم وتاريخ ونُسخ صحيحة أو مقلوبة مثقوبة الجوانب أو منقوبة، لتستقر في مأواها بإضبارة لمّ شمل البريد، أو في مثواها ما قبل الأخير ضمن (كرتونة) الزجّ في المستودعات، طبعاً بعد أن يستلم المواطن نسخته ويتدبّر بها أمره أو أمر من أوكله بأمره.

 

التأجيل الاستعجالي!

ومن حالات تأجيل الإدارة لمواضيع ما، ارتباط تلك المواضيع ببريد آخر قد يطرأ على الطريق، ومنها ما يمنح معنيّاً بإبطاء أمرٍ ما فُرَصاً إضافية للإجهاز على خصمٍ له، فبعض ضربات الإدارة المتكرر والمبرّح قد لا يجدي أبداً، فيأتي تأجيل المواضيع هنا سيداً للموقف ويمنح المعنيّ الوقت للتظاهر بالقوة وحُسن التصرف وإبعاد الشبهات عن نفسه إلى وقت قد يقال فيه (من ضرب ضرب ومن هرب هرب)، الأمر الذي تعجّ أضابير الحكومة بنماذج منه، وخاصةً إذا كان بعض أفراد إدارةٍ ما للاستعمال الخارجي فقط… أما أقسى حالات الإهمال فهي الإهمال المزاجي المعبّر عن استهتار صاحبه بصاحب الحالة، أو ذلك الإهمال الذي يعكس جهل المدير أو نقص مهارته المكتسب عبر سلسلة من الإخفاقات. (غض النظر) و(عدم الموافقة) و(اللامانع)!

من الحالات أيضاً (غضّ النظر) هروباً من موضوعٍ ما يعكس حذر بعض الحكوميين في اتخاذ القرار، وخاصةً حين يبث له آخرون ذوو مصالح مطّلعون على بريده أو مُطْلَعون عليه إشاراتٍ سلكية ولاسلكية بضرورة عدم الموافقة رغم أنه لا مانع، فيتأرجح هذا البعض بين تلك الإشارات وبين (اللامانع) ويُصدَم بصدمة أشبه بالكهربائية، فيحشو حاشيته المتوترة في أعتم زاوية من المعاملة بعبارة للدراسة ويتنفّس الصعداء ومعه مديرو الاستعلامات الذين يشعرون بسعة الصدر ولذّة الجواب لدى إبلاغهم المراجعين من منكوبي الانتظار بالانتظار، فالأمر قد يكون خَطْباً جَلَلاً، مليئاً إشكاليّاتٍ وعللاً، وقد يسبّب للموما إليهم ارتفاع حرارةٍ وسخونةً أو شللاً وبللاً!

 

رأي ذوي الخبرة

وفيما يرى بعض ذوي الخبرة في تأجيل إنجاز المعاملات مقتلاً لتلك المعاملات وزجّاً لها في مثواها الأخير ودفناً لآمال صاحبها حيّةً، يرى آخرون أنه ضعفٌ في اتخاذ القرار ناجمٌ عن معركة خير وشر في رأس المقرِّر، فإنْ فعل خيراً قد يفعلون به شرّاً، وإنْ فعل شرّاً قد يؤنّبه الضمير والقانون…فيصاب بالحيرة وينتظر، وربما يدعو بطول العمر لصاحب العلاقة، فبعض الحالات ما زال قيد الانتظار منذ سنوات، قضى أصحابها نحبهم وآخرون ينتظرون، فالحكومة لا تغيّر نهجها ببساطة، وذلك على مبدأ (الذي تعرفه ولو كنت لا تعرف شيئاً عنه أفضل من الذي لا تعرفه ولا تريد أن تعرف شيئاً عنه) و(الوضع مغطّى بالقوانين النافذة) و(النافذة مفتوحة للمراجعين… هذا فضلاً عن الرباعي على الأثير وصفحة التواصل مع الشعب الغفير)!

 

مسؤولية حكومة مضت.. أم حكومة أتت؟

من أمثلة (رمي المعاملات على الرفّ) ما قد يكون آخر إنجازات حكومة عبرت، وربما أول إنجازات حكومة أتت. فحتى مدير استعلامات الحكومة لا يدري من الذي يرمي تلك المعاملات، يجلس في غرفة (انتظار) على يسار البناء خلف كوّة لاستلام البريد والمراجعين معاً، فهؤلاء محظورٌ دخولهم إلى سيد البناء، أما (الاستعلامي) فلا يعنيه أقديمٌ رئيس المجلس أم جديد، وكل ما يعرفه أن المعاملة ترقد في حضن الحكومة، ثم تتيه كالمجنونة في أروقتها الداخلية والخارجية، العُلوية والسُّفلية، وتتأخر، (نعم، تتأخر)! جوابٌ لا مثيل له على لسان (الاستعلامي)، يأتي أسرع من برق كانون وأخطف من لمح العيون، يعاجل به ويعالج حيرة المراجع واستفهام عينيه، فتنسحبان مع صاحبها على درب مسيرة الحكوميين ولا تجد منهم أحداً، فظهورهم على هذا الدرب في الشاشة بكامل الأناقة والبشاشة له مواعيد يحددها المخرج ويرضى عنها مدير المركز الإخباري الذي يذيّل لقارئ النشرة عبارات (حل مشاكل المواطنين)، فتتصدّر الشاشة متلألئةً وتحتل نصفها بخط عربي جميل. ألا يفسّر ذلك ما يشعر به المواطن في أذنيه من طنين؟! فالحكوميون لا يألون جهداً في (استحضار) سيرة المواطن وهمومه، وفي كل لحظة يذكرون اسمه ويجعلون همّه عبرة لمن اعتبر، ويجعلون الطنين في أذنيه كنغمة وتر ونعمة مطر!

العدد 1105 - 01/5/2024