غزة في عين العاصفة والعدوان… واستحقاقات المواجهة

يحمل التصعيد والقصف الجوي والبحري، تمهيداً للاجتياح الإسرائيلي البري على قطاع غزة، في طياته عدة قراءات، منها ما هو مرتبط باستحقاق الانتخابات المبكرة للكنيست، ومنها مرتبط باهتزاز هيبة الردع الإسرائيلية. إضافة إلى صلة ذلك بما يجري على صعيد المشهد الإقليمي، وما أفرزه من كوابح أمام كرة النار المتدحرجة باتجاه عدوان إسرائيلي واسع، مدفوعاً في هذه المرحلة بحقيقة أن صورة إسرائيل الرادعة قد تكسرت أمام الجانب الفلسطيني، وربما العربي، بكل أحزابه وفصائله وقواه الوطنية والقومية الحيّة، التي من شأنها أيضاً أن تمتد لإلحاق الضرر بقدرتها على الردع في ساحات أخرى، تكثّر في المرحلة الأخيرة من هز العصا في وجهها.. ويمكن القول إن اهتزاز الردع الإسرائيلي امتد أيضاً إلى عقر دار إسرائيل نفسها، وهو ما كان واضحاً في الأيام القليلة الماضية. فقد كانت حسابات المحللين والخبراء حاضرة أمام الثلاثي نتنياهو- باراك- ليبرمان الذين أدركوا أن خواتيم جولة التصعيد والتصعيد المضاد، وما آلت إليه من نتائج، سوف يلحقان أضراراً فعلية بصورتهم كزعامة قادرة على اتخاذ (قرارات شجاعة)من شأنها أن توفر للإسرائيليين هدوءاً وأمناً.

 

صواريخ المقاومة في العمق الإسرائيلي

تواصلت الضربات الصاروخية الفلسطينية التي تلقتها المستوطنات الإسرائيلية رداً على الاعتداء الغاشم في قطاع  غزة، والتي كانت قاسية جداً في حسابات تل أبيب، الأمر الذي وضع حكومة أقصى اليمين في إسرائيل أمام المأزق الخانق وعدم التراجع عن الولوغ أكثر فأكثر في الدم الفلسطيني، إضافة إلى استعادة صورة الدولة الرادعة، وهو مايمكن تحقيقه في أحد خيارين:

1- عملية عدوانية عسكرية واسعة مشابهة لعملية (الرصاص المسكوب)في نهاية عام ،2008 تحمل اسم (عمود السحاب)هذه المرة، على الرغم من جميع العقبات السياسية المحلية والإقليمية والدولية، فضلاً عن تطور القدرات العسكرية القتالية الفلسطينية.

2- اللجوء إلى سياسة الاغتيالات، على الرغم من أنها تنطوي على إمكان التدحرج نحو مواجهة واسعة، وربما غير محسوبة النتائج، في حال قوبلت بردود فعل تتجاوز الخطوط الحمراء الأمريكية. وهكذا عملت آلة الحرب الإسرائيلية وما يحيط بها من أجهزة ميدانية وعملانية، على توفير الأرضية التي تمكنها من تنفيذ عمليات الاغتيال لقادة المقاومة العسكريين، فضلاً عن تحرك تضليلي، حاولت عبره الحكومة الإسرائيلية المصغرة الإيحاء بأن التوجهات العسكرية الإسرائيلية باتت في مكان آخر، بعيداً عن قطاع غزة، وتحديداً باتجاه الجبهة الشمالية، الأمر الذي فهم منه المراقبون أن موضوع غزة انتهى، أو هو نحو الخطوات الأخيرة للتهدئة والهدوء.

لقد ساهمت الإدارة الأمريكية في عملية (عمود السحاب)عندما لم يَدَعْ سفيرها في تل أبيب دان شبيرو مجالاً للشك والتردد بشأن وجود ضوء أخضر من الإدارة الأمريكية بتوجيه ضربة قاسية لقطاع غزة بقوله: (لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها)، الأمر الذي دفع المعلق العسكري في جريدة (يديعوت أحرنوت) إلى التعليق بالقول: (إن كلمة السر الأمريكية أطلقها شابيرو)، وترجمتها كانت واضحة وهي: (سنقابل أي عملية لكم في غزة بتفهم كامل)!

إذاً الولايات المتحدة تؤيد إسرائيل في عدوانها على غزة، وليس لدى المقاومة الفلسطينية أسلحة دمار شامل، وليس لديها حتى آليات أو دبابات، بل لديها بضعة صواريخ (غراد) تطلقها للدفاع عن النفس وحماية للشعب الأعزل، فيما الآلة العسكرية الإسرائيلية الوحشية تستعمل كل طاقاتها لتضرب أهالي غزة، ليسقط عشرات الشهداء نتيجة الغارات الإسرائيلية، إضافة إلى مئات الجرحى، وتدمير عشرات المنازل في  الغارات الجوية حتى الآن.

لا يكفي لمصر أن تسحب سفيرها، ولا يجوز لبقية العرب أن يبقوا متفرجين، عليهم أن يقرؤوا جيداً المشهد في غزة، وأن تكون ردة فعلهم مباشرة بالضغط على الإدارة الأمريكية لوقف العدوان، وأن يبادروا إلى إلغاء اتفاقيات (وادي عربة وكامب ديفيد وأوسلو)، وإعادة النظر في سياسة العمل العربي المشترك بشكل عام، ومواجهة إسرائيل دبلوماسياً في جميع المحافل الإقليمية والدولية لفك الحصار الجائر عن غزة، إضافة إلى دعم الشعب الفلسطيني وتخفيف حجم الأضرار والخسائر التي تقع في صفوفه، بسبب القصف اليومي.

 

الطريق إلى تغيير المشهد السياسي

في ظل الوضع المأسوي- الكارثي الذي تعيشه غزة اليوم، ينفتح أفق البحث في خيارات تقوم على التوافق والاتفاق لبناء موقف كفاحي وسياسي موحد، وتبرز في هذا السياق، الصحوة التلقائية من أجل إنهاء حالة الانقسام، وإنجاز المصالحة الوطنية، وبشكل يزيل كل ظلال الحسابات الفئوية والفصائلية الضيقة، وتغليب المصلحة الوطنية والقومية، وبتشجيع عربي رسمي وشعبي للوصول إلى تمثل اتفاق المصالحة وتطبيقه على المسار الذي يمكن أن يؤدي إلى استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية في المدى المنظور.

ربما تغلب هذه القراءة السريعة للمشهد الفلسطيني الراهن (المتشائل)حسب تعبير إميل حبيبي، لكنها تنطوي على عناصر إن أحسن الفلسطينيون التقاطها، فستقلب التشاؤم إلى تفاؤل باستعادة الطابع التحرري للنضال الوطني الفلسطيني. واستعادة الوحدة الوطنية بما يمكّن من بناء موقف سياسي فلسطيني موحد قادر على مجابهة التحديات الناجمة عن استمرار دولة الاحتلال في فرض الأمر الواقع على الأرض الفلسطينية بقوة العدوان والسلاح والتدمير والاستيطان والتهويد من جهة، وعلى مواجهة التحديات التي نجمت عن انهيار المفاوضات، ومحاولات فرض حل يهدف إلى تصفية عناصر القضية الفلسطينية من جهة أخرى. وفي سياق الخيارات ثمة عناصر قوة يجري تجاهلها، كوضع استراتيجيا وطنية لتطوير أشكال المقاومة، والانتقال بها من مقاومة في (جزر معزولة)إلى مقاومة يومية شاملة في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولاسيما داخل مدينة القدس، إضافة إلى تفعيل سلاح الملاحقة القانونية لدولة الاحتلال وقادتها السياسيين والعسكريين في شتى المحافل الدولية، وتفعيل حركة التضامن العالمية مع كفاح الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، ومن أجل وقف العدوان وكسر الحصار على قطاع غزة.

إن وجود سلطتين وحكومتين فلسطينيتين ومؤسسات سياسية وأمنية مزدوجة في الضفة والقطاع، هو وضع غير طبيعي وخارج سياق مرحلة التحرر الوطني التي تفرض على الشعب المحتل وقواه وحدة صوانية تقنع العالم بعدالة قضيته.

قد يتساءل البعض: لماذا التركيز على إنهاء الانقسام وجعله عنواناً للانتفاضة والمقاومة؟ الجواب ببساطة أن إنهاء الانقسام هو مفتاح إنهاء الاحتلال وعودة الشعب الفلسطينية إلى هويته وكينونته الوطنية اللتين فرقهما الاحتلال والانقسام، وهو مفتاح عودة القضية إلى ماهيتها وأصولها كحركة تحرر وطني وديمقراطي، وهو المدخل لمواجهة الاحتلال والعدوان والاستيطان والحصار، أكان سياسياً أم عسكرياً!

لقد أخرج الانقسام القضية الفلسطينية من سياقها الطبيعي، ودمّر المشروع الوطني، وقضى على مشروع المقاومة ومشروع السلام، وفصل غزة عن الضفة، وصدّر الانقسام إلى الشتات، وعزّز الأحقاد، وشوّه صورة الفلسطيني في العالم الخارجي، وفتح شهية إسرائيل على العدوان واستكمال مشروعها الاستيطاني التهويدي، ونشر الإحباط واليأس، وصير الشعب في حالة غير مسبوقة من التيه السياسي.

وتباينت ردود الفعل العربية والدولية على العدوان، وعقد مجلس وزراء خارجية الدول العربية اجتماعاً طارئاً لتدارس الموقف، واكتفى بإدانة العدوان وطالب بإعادة النظر بمبادرة السلام العربية، وبإرسال وفد إلى غزة لمعرفة الوضع عن كثب. ودانت سورية وإيران العدوان وطلبت روسيا والصين وقف العنف غير المتكافئ ضد قطاع غزة. ورأت الدول الغربية أن لإسرائيل الحق بالدفاع عن نفسها، وطلبت من حماس وقف عنفها ضد إسرائيل. وطلب الأمين العام للأمم المتحدة من الأطراف وقف العنف، وتعهد بزيارة غزة للاطلاع على أوضاع سكانها.

إن عدوان إسرائيل الوحشي على غزة وعدوانها قبل أسابيع على السودان، يحتاج من الحكومات العربية والمجتمع الدولي، تحمّل المسؤولية واتخاذ مواقف رادعة تلجم البلطجة الصهيونية وتنصف الشعوب وتنهي الاحتلال.

العدد 1105 - 01/5/2024