من الصحافة العربية العدد 564

مخيم اليرموك والحياد الممنوع

 

مخيم اليرموك بات إحدى البوابات الرئيسية لاقتحام دمشق من قبل قوات المعارضة المسلحة، والدفاع عنها من قبل القوات السورية، ولذلك بات من الصعب أن يظل بعيداً عن هذا الصراع الدموي المشتعل حالياً منذ 22 شهراً، دون أن يحسم لمصلحة هذا الطرف أو ذاك.

من الطبيعي أن تنعكس الأزمة السورية الحالية على الفلسطينيين بأشكالها الدموية كافة، ومن الطبيعي أيضاً أن ينقسم الفلسطينيون فيما بينهم تماماً مثلما انقسم نظراؤهم السوريون.. فهناك من الفلسطينيين من يؤيد النظام في دمشق، ومن بين هؤلاء فصائل مقاتلة حظيت دائماً بدعمه ومساندته، لأنها وقفت في خندقه في ذروة خلافه مع منظمة التحرير وقيادتها.. وهناك من الفلسطينيين من وقف في خندق المعارضة السورية، والإسلامية منها على وجه الخصوص، وشكلوا فصائل أقرب إلى (جبهة) النصرة والجماعات الجهادية الأخرى، مثل لواء زهرة المدائن، ولواء العهدة العمرية، ونفذوا عمليات تفجيرية ضد أهداف أمنية للنظام. لكن الأغلبية الساحقة من أبناء مخيم اليرموك، والمخيمات الفلسطينية الأخرى في سورية، يفضلون البقاء على الحياد، ويقدرون للشعب السوري وسلطاته المتعاقبة المعاملة الطيبة التي وصلت إلى درجة المساواة في كل شيء مع مضيفهم السوري، باستثناء رئاسة الجمهورية، وهؤلاء المحايدون يريدون أن يظلوا بعيداً عن الصراع، وأن لا يطولهم القصف الجوي الرسمي الذي استهدف مخيمهم لملاحقة المتسللين المسلحين الذين لجؤوا إليه، واستخدموه قاعدة للقيام بعملياتهم ضد النظام ومؤسساته.

وكالة غوث اللاجئين التي تتولى إغاثة أهل المخيم منذ نكبة فلسطين، لا تستطيع إقامة مخيمات لجوء جديدة لهم، ولا حتى لأشقائهم السوريين الذين يعيشون وضعاً ربما أكثر سوءاً. ولذلك العودة إلى المخيم هي الحل الوحيد، فلماذا لا يتم اتفاق بين السلطة والمعارضة على احترام حيادية المخيم؟ نشعر بالحنق والغضب عندما نسمع أصواتاً في الغرب تطالب دولاً عربية، بل وحتى سلطة حماس في قطاع غزة باستيعاب هؤلاء، ولا يطالبون إسرائيل التي تقف خلف جريمة لجوء هؤلاء قبل أكثر من ستين عاماً. عار على بان كي مون، أمين عام الأمم المتحدة، أن يلوم السلطتين في رام الله وغزة على عدم عمل شيء لهؤلاء، ولا يوجه كلمة لوم واحدة لإسرائيل.

نعترف أنها قضية معقدة، لا تقل تعقيداً عن القضية الفلسطينية الأم، ونريد لفت الأنظار، أنظار الجميع، داخل سورية وخارجها، لمأساة أبناء مخيم اليرموك، بسبب خصوصيتها، وتفهم وضعهم الحساس في محيط متفجر. لا نتردد لحظة، وفي ظل استمرار هذه المحارق الفلسطينية التي سببتها إسرائيل للفلسطينيين، داخل فلسطين وخارجها، داخلها من خلال عدوانها المتواصل على أهلنا في غزة والضفة، وفي الخارج بتشريد ستة ملايين فلسطيني في مخيمات اللجوء والمنافي، بالدعوة إلى أن يتوجه جميع أبناء المخيمات في لبنان وسورية والأردن في مسيرات نحو حدود فلسطين، في محاولة لاقتحامها، وإذا عجزوا فليقيموا مخيماتهم هناك لتذكير العالم، والعرب على وجه الخصوص، بالسبب الحقيقي لمأساتهم وحالة الظلم وعدم الاستقرار في المنطقة.

عبد الباري عطوان

(القدس العربي)، 9/1/2013

 

الإسلام السياسي يشق المجتمعات العربية

لم يسبق أن فُتّتت المنطقة بالشعار الديني كما تُفتّت هذه الأيام، من دون الالتفات إلى ما يهدد شعوب هذه الأرض من مخاطر مصيرية، بعضها يتصل بالمشروع الإسرائيلي وبعضها الآخر بمشروع الهيمنة الأمريكية الذي استغنى عن الأساطيل والجيوش، بعدما اكتشف أن (الفتنة) تدمر أكثر من الأسلحة جميعاً، وبضمنها النووية، ثم إن الطائرات من غير طيار تكمل هذه (المهمة المقدسة).

من لبنان المهدد في وحدته الوطنية وكيانه السياسي، إلى سورية الغارقة في دماء أبنائها والمهددة دولتها بالتفكك، وصولاً إلى (الصوملة) التي أنذر بها الموفد العربي- الدولي الأخضر الإبراهيمي، فإلى العراق الذي تطل في أرجائه نذر الفتنة الطائفية بل المذهبية التي قد تأخذه إلى التفتّت، فإلى البحرين، وانتهاء باليمن مروراً بالسعودية.

تجاوز الأمر تقسيم الرعايا بحسب أديانهم. وصل التقسيم إلى المذاهب، ثم إلى داخل المذاهب، فتم فرز (المؤمنين) عن الآخرين المطعون في إسلامهم.

وفقاً لهذا المنطق التكفيري، فليس كل المسلمين في مصر مسلمين، مع أنهم جميعاً من أهل السنة.. بل إن المتطرفين من (الإخوان المسلمين) والأكثر تطرفاً من السلفيين يتهم معظم المصريين المسلمين بالكفر، أما الأقباط فهم خارج البحث! كذلك الأمر في تونس ما بعد زين العابدين بن علي، فهناك حالياً (الإخوان المسلمون) والسلفيون و(الآخرون) ممن يكاد أهل السلطة ذات الطابع الإسلامي ينكرون عليهم إسلامهم، برغم وحدة المذهب.

أما في ليبيا، فثمة اختلاط عجيب في المفاهيم وفي النظرة إلى (المواطنين) فيها، وكلهم من المسلمين، وإن اختلفت قبائلهم وأعراقهم بنسبة محدودة.

أما إذا انتقلنا إلى المشرق، فالأمر يغدو أكثر تعقيداً.. إذ يضاف إلى الاختلاف في المذهب نفسه توزع الرعايا المسلمين بين أكثرية سنية وأقليات شيعية – علوية – درزية، فضلاً عن المسيحيين (لبنان وسورية والأردن)، بينما يختلف الوضع في العراق حيث الأكثرية – النسبية – شيعية بين العرب.. في حين تغلب العرقية أو القومية الكردية على الدين في الشمال وغالبيته الساحقة من أهل السنة، وتبقى مجاميع من الأقليات المسيحية التي تتعرض للاعتداءات بقصد تهجيرها، وقد تم بالفعل تهجير معظم هؤلاء الذين أعطوا العراق حضارته مع فجر التاريخ.

في البداية كان الحديث بالتأييد أو بالاعتراض يتركز على الجوانب السياسية وممارسات الأنظمة الحاكمة. أما بعد فورة الإسلام السياسي وتمكّن (الإخوان) ومعهم (السلفيون) من ركوب هذه الموجة والوصول إلى السلطة في مصر أساساً. وفي تونس وإن بنسبة أقل، ومن دون أن ننسى ليبيا، فقد اتخذ الحديث أكثر فأكثر الطابع الطائفي ثم المذهبي.

وهكذا فقد أُخرج الأقباط بداية في مصر من المعادلة السياسية.

ثم ارتفعت أصوات سلفية تخرج سائر المسلمين، من غير (الإخوان) والسلفيين، من الدين الإسلامي ذاته. فالتكفيريون في كل مكان، والتكفير منهج سياسي وليس أسلوب عبادة أو مجرد تشدد في تطبيق تعاليم دينية مفترضة في وجه الخارجين على الدين.

كثير من هذه التحديات والأخطاء السياسية التي تتوسل الفتنة طريقاً إلى السلطة والتفرد بها تتوقف على تطور الأوضاع في مصر، فإذا ظل الإخوان ماضين في نهج احتكار السلطة – مع إعطاء حصة ما للسلفيين – وبالتالي في تبني منطق التحريض على الفتنة بإنكار إسلام المسلمين الذين لا يرون رأيهم في الدين والدنيا، فضلاً عن غير المسلمين، فإن كارثة قومية شاملة تتهدد بلاد العرب جميعاً من أدناها إلى أقصاها.

حمى الله المسلمين من جهنم الفتنة، التي تطل برؤوسها مشرقاً ومغرباً.

طلال سلمان

(السفير)، 9/1/،2013 (بالتزامن مع جريدة (الشروق) المصرية).

 

 

الدولة التونسية تتفتّت

النظام الديمقراطي الوليد بعد الثورة يفترض أن يُلزم (الأفرادَ إخضاعَ إرادتهم لعقلهم)، مثلما دعا إلى ذلك المفكر الفرنسي جان جاك روسو. فالسيادة الشعبية تمظهرت في انتخاب المجلس التأسيسي، الذي يفترض أن يضع القوانين العادلة الواجب تنفيذها من قبل الحكومة، إلا أنّ السلطة الحالية ارتأت أن تقود البلاد نحو وجهة أخرى. فبين دولة قوية تضمن الحقوق والحريات، مثلما حلم منظرو الدولة المدنية، ودولة (هي التعبير الاجتماعي عن عقيدة التوحيد)، التي لا تخالف النص الديني (أي نصّ؟ ووفق أيّ فقه؟ ومن هو المؤهل لتحديد القراءة الصائبة والسوية لنصّ القرآن والحديث النبوي؟) لزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي هناك فرق شاسع في المفاهيم والنظريات. وليس مستغرباً أن يعمد إسلاميو تونس إلى هدم جميع أركان الدولة المدنية ليبنوا على أنقاضها تصوّرهم لدولة تعود جذور بنيتها إلى العصور الغابرة. الموجة الثورية التي اجتاحت تونس بعد فرار الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي استهدفت بالأساس القضاء على أسس الدكتاتورية. الجميع انخرط في مهمة تفتيت الدولة وإحداث الفراغ من حولها، تيقناً من أنّه سيكون الفائز في انتخابات ستحمله إلى ملء المساحة التي تركها الحاكم السابق. ويا لخيبة المسعى! فالاستبداد لا يُختزل في رأس الحكم، بل يتأسس عندما يجد له سنداً في العقلية العامة للمجتمع. والتونسيون ليسوا ديمقراطيين بما فيه الكفاية، وإلا ما قبلوا دكتاتورية حكمتهم لمدة نصف قرن، وسيظلّ لديهم دائماً الاستعداد الذهني لتقبّل سلطة طاغية، ولو غيّرت رداءها، حتى إشعار آخر لن يأتي إلا بعد عشرات السنين. وجاء اكتساح (النهضة) لنتائج الانتخابات متوقعاً من حزب يعمل بنفس أسلوب حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل. وبمجرد قيادة هذا الحزب دفة الحكم، بالشراكة مع حزبين صغيرين لا حول لهما ولا قوة، تسارعت وتيرة بناء النموذج (النهضوي) لدولة القرن الحادي والعشرين.

فانهارت منظومة القضاء والعدالة، وانفلت الأمن والاستقرار، وأطلّت القبلية والعشائرية برأسيهما من جديد، وديست جميع القوانين المحلية، وتغلغل الإرهاب بين أركان المجتمع. وبالتالي، ضعفت الدولة، التي استندت لأوّل مرة في تاريخها المعاصر، إلى الإرادة الشعبية.

الاختراق الإسلامي للدولة التونسية يمرّ عبر مستويين: الأول، في جانبه الرسمي عبر تولي حركة النهضة الإمساك بكامل مقاليد البلاد، من طريق تعيين أفراد من جماعتها في أبرز الوزارات، والمحافظات المحلية ومجالس البلديات وكبرى المؤسسات. والثاني، من خلال غضّ الطرف عن اكتساح مجموعات إسلامية أخرى مقربة منها الفضاء العام.

حركة النهضة لا تؤمن بقيم الدولة المدنية، التي هي غريبة عن المعجم السياسي لحزب لا يزال يولي بأنظاره إلى عصور غبرت. ألم ينذر رئيس الحكومة المؤقت حمادي الجبالي في أحد اجتماعات حزبه بقرب إعلان (الخلافة السادسة)! لا شيء يمنع، في الوقت الحاضر، أن يواصل النهضويون مخططاتهم ما داموا قد وجدوا الطريق معبّداً… بمساعدة العلمانيين!

سفيان الشورابي

صحافي تونسي ــ (الأخبار)11،/1/2013

العدد 1104 - 24/4/2024