اتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية خلال «انتفاضات الربيع العربي» وبعده

لاتزال الركائز الأساسية التي تحكم اتجاهات السياسة الأمريكية في المنطقة العربية هي ذاتها من دون تغيير منذ عقود، وتختصر أولاً بالحفاظ على أمن منابع النفط وضمان تدفقه إلى العالم عموماً والغرب خاصة، وكذلك أمن إسرائيل. وإلى جانب هاتين الركيزتين الأساسيتين، أضيف هدف ثالث بعد أحداث 11 أيلول ،2001 وهو تحدي (محاربة الإرهاب) ومكافحة أسبابه، بعدما ضربت (العمليات الإرهابية) عقر دار الولايات المتحدة ورموزها.. ويرتبط هذا الهدف أيضاً بالهدفين الأساسيين، على اعتبار أن (محاربة الإرهاب) تحمي إسرائيل وتندرج ضمن الحفاظ على تدفق النفط.

من هنا يفترض الانطلاق دائماً لفهم سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة في المنطقة العربية على اختلاف اتجاهاتها السياسية والحزبية، وتعاقب الرؤساء والإدارات.. وعلى هذه الركائز المذكورة أعلاه تنطلق السياسة الخارجية الأمريكية لتحدد أوّلياتها وأهدافها البعيدة والقصيرة المدى، استناداً إلى قاعدة المصالح العليا للولايات المتحدة، وليس بالتحديد المبادئ والشعارات التي ترفعها، وإن حرصت واشنطن دائماً في العلن على التركيز على المبادئ التي ترفع لواءها في العالم ك(الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان) وغيرها!

وأهداف هذه السياسة الخارجية وكيفية تطبيقها ومتابعتها، ليست حكراً على فريق واحد في الدولة  الأمريكية، أو إدارة، أومؤسسة معينة. فتركيبة المؤسسات الأمريكية التعددية والبيروقراطية الكبيرة، هي الحاضن لصنع السياسة الخارجية التي يشارك في صياغتها عدد كبير من الأجهزة والدوائر، من الرئيس إلى وزارة الخارجية، والدفاع، والأمن الوطني، ومجلس الأمن القومي، ومجلسَيْ النواب والشيوخ، والوكالات الأمنية على تعددها واختلافها.

وفي وزارة الخارجية مثلاً، هناك مجموعة واسعة من الدوائر التي تعنى بمتابعة السياسة الخارجية، والتخطيط السياسي والمعلومات والأبحاث، ومكافحة الإرهاب، والمنظمات الدولية، والسياسة العسكرية، والشؤون الاقتصادية وغيرها.. ونجد مزيداً من تشعب هذه الشبكة من الإدارات والأجهزة، فلكل وزارة دائرتها للشؤون الخارجية وتشارك في اتخاذ القرار، ومن بين هذه الوزارات مثلاً وزارة الزراعة!

هذه هي الصورة المكثفة لركائز السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة العربية، والأفرقاء الذين يسهمون في صنعها وتطبيقها. أما بالنسبة للموقف الأمريكي من (انتفاضات الربيع العربي)، فالحقيقة أن واشنطن فوجئت مثل غيرها بهذه الانتفاضات الشعبية السلمية. وبطبيعة الحال كان من الطبيعي أن تسارع إلى رصدها ومراقبة مآلها، خاصة أن من بادر إلى إطلاق هذه التحركات الشعبية وتنظيمها هم شباب عصريون تشربوا أفكار ومبادئ التعددية والحرية والديمقراطية والدولية المدنية، واستعملوا وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة والتكنولوجيا.

في موازاة ذلك، ينبغي الإشارة إلى تمايز بسيط بين الرئيس باراك أوباما وبين الإدارة الأمريكية.. إذ يحاول الرئيس أوباما مندفعاً أكثر من إدارته لدعم ما سمي ب(انتفاضات الربيع العربي)، وذلك بسبب خلفيته وثقافته التي دفعته إلى التعاطف مع حركات تطالب بالتعددية والديمقراطية والدولة المدنية.. لكن السياسة الخارجية هي أيضاً قائمة على المصالح الأمريكية العليا وتعلو فوق المبادئ والقيم، وحتى تمنيات الرئيس الأمريكي وآرائه.

 

احتواء تداعيات الانتفاضات ومفاعيلها

اندرجت توجهات السياسة الأمريكية تجاه الانتفاضات العربية تحت عنوان رئيسي، هو محاولة احتواء تداعيات الانتفاضات ومفاعيلها، وعدم تركها تؤثر على مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية، ومن ضمن هذه السياسة تدخلت واشنطن ودعمت التغيير في مصر وتونس، وأسهمت في خلع حسني مبارك وبن علي. وفي اليمن كان لها اليد الطولى في دعم (المبادرة الخليجية) للحل وتطبيقها. وفي ليبيا أيدت تشكيل (تحالف دولي) لإسقاط نظام القذافي، على الرغم من أنها لم تكن في موقع قيادة التحالف، وتركت المبادرة للأوربيين في حلف شمال الأطلسي.

لكن وصول الحركات الإسلامية إلى سدة الحكم في مصر وتونس عبر صناديق الاقتراع، وبعد تجربة الانتخابات الجزائرية في عام ،1992 والفلسطينية في عام ،2006 دفع واشنطن إلى محاولة استيعاب صعود هذه الحركات واحتوائها.. وفي هذا السياق يمكن قراءة الموقف الأمريكي من الأحداث في سورية.. فمن الصحيح أن الإدارة الأمريكية تقف ضد النظام، وتدعو رئيسه بشار الأسد إلى (التنحي)، لكنها أحجمت لغاية اليوم عن (التدخل العسكري) الذي تطالب به بعض الدول الخليجية، وأيضاً لم تستجب لمطالب طرحت في داخل الكونغرس ل(دعم الانتفاضة السورية)، تخوفاً مما يمكن أن يؤول إليه الوضع في سورية وتحولها إلى (بؤرة للجهاديين المسلحين)!

في كل هذا المشهد، كان همّ الولايات المتحدة وديدنها الأساسي هو احتواء تداعيات التغييرات، ومنطلقاً من الركيزتين الإستراتيجيتين الثابتتين:

الأولى: ضرورة الحفاظ على أمن إسرائيل، وألا يتهدد بفعل تداعيات (الانتفاضات العربية) لاسيما في دول الطوق.

الثانية: ضمان تدفق النفط، وإيجاد حلول للاضطرابات والتوترات في اليمن والبحرين.

يبقى ملف عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين ملفاً شائكاً ومعقداً، ومن دون أفق لحل منظور في المدى القريب.. فربما يتعاطف الرئيس أوباما مع المطالب المحقة للشعب الفلسطيني، وقد رأينا في بداية ولايته انتقاداً واضحاً للسياسة الإسرائيلية وممارساتها، خاصة في ملف الاستيطان، والاستمرار في بناء المستوطنات وجدار الفصل العنصري. لكن التفاؤل الذي طبع بداية ولايته لجهة تحقيق خرق في موضوع الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي اضمحل تدريجياً بعدما تراجع الرئيس أوباما وإدارته بسبب الضغوط الداخلية التي مورست عليه وعلى الحزب الديمقراطي.. ذلك أن السياسة الخارجية الأمريكية في معظمها هي امتداد للسياسة الداخلية التي تتحكم بمفاصلها اللوبيات، وأهمها (اللوبي اليهودي)، في مقابل غياب الضغوط العربية واللوبيات الفاعلة والمؤثرة.

وفي كلمة ألقاها يوم 20 كانون الثاني 2013 بمناسبة الاحتفال بتنصيبه الثاني، أكد الرئيس أوباما أن (مهمة السياسة الخارجية الأمريكية سوف تكون المساعدة في إنهاء حالة اليأس، وبناء مستقبل أفضل لجميع شعوب العالم عامة والشرق الأوسط خاصة، وتقديم رؤية تعمل على الموازنة بين المبادئ والمصالح)!

وقد أظهر تصريح لاحق لجون كيري، وزير الخارجية الأمريكي الجديد، حدود (إعادة التفكير) الذي تقوم به الإدارة الأمريكية. فقد أشار كيري إلى أن (رفض التغيير) هو (أكبر مصادر عدم الاستقرار في الشرق الأوسط اليوم). وتوقع كيري أنه (إذا ظلت أنظمة الحكم العربية غير منتخبة) فإن ذلك يغرس بذور الاضطرابات المستقبلية، وستكون الشعوب العربية قد (خسرت فرصة تاريخية).

وبعد استشعارهم القلق نتيجة الإخفاقات الاستخباراتية خلال اندلاع (انتفاضات الربيع العربي) وبعدها، استمر المشرّعون الأمريكيون في النظر إلى العلاقات الأمريكية -العربية والمساعدات الأمريكية لكل من مصر وتونس واليمن والأردن ولبنان، من منظور الأمن الإسرائيلي.. إذ أكدت إلينا روس، رئيسة لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب، أن المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل تدلل على (تأييد الولايات المتحدة الدائم لإسرائيل، الذي تجسده العلاقات الوثيقة بين البلدين، والتعاون في مجال الدفاع الصاروخي، والحفاظ على التفوق النوعي العسكري لإسرائيل على الدول المجاورة).

 

خلاصة القول

باغتت موجة (الانتفاضات العربية) الإدارة الأمريكية، ولم يكن رد فعل هذه الإدارة الأوَّلي هو تأييد (الانتفاضات)، وقد تشكل الموقف الأمريكي من الانتفاضات العربية بمقدار أهمية كل دولة بالنسبة للمصالح الحيوية الأمريكية. فرغم تعاون واشنطن وتونس في الشؤون الأمنية، وتحديداً (مكافحة الإرهاب)، فإن تونس ليست لها الأهمية الاستراتيجية التي لمصر، من ناحية النفوذ الإقليمي وما تمثله من تحد استراتيجي لإسرائيل، وتحكمها في (ممر استراتيجي) مهم مثل قناة السويس. كما أن تونس ليست من الدول المصدرة للنفط مثل ليبيا. ولذلك لم تتدخل واشنطن في مسار الثورة التونسية.. وفي المقابل وقفت الولايات المتحدة جانباً، بينما تُقمع المعارضة البحرينية بالقوة، كما أنها لم تدعم تدخلاً عسكرياً في اليمن أو سورية. وبالنسبة إلى مصر، حرصت واشنطن على الحفاظ على علاقاتها الحيوية بالجيش المصري، وتجاوزت الدبلوماسية الأمريكية الأزمة التي نشأت حول عمل عدد من المنظمات الأمريكية والأوربية (غير الحكومية) في مصر دون تصريح من الحكومة المصرية، والتي بلغ عدد المتهمين فيها 19 أمريكياً، مُنعوا لفترة من مغادرة البلاد.. وقد تجلى حرص الإدارة الأمريكية على الحفاظ على هذه العلاقة في أنها قدمت إلى الكونغرس طلباً بأن تتلقى مصر مساعدات عسكرية واقتصادية كاملة في السنة المالية 2012- 2013.

العدد 1105 - 01/5/2024