في الذكرى التاسعة والثمانين للرحيل: الشيخ سيد درويش وموسيقا الجميع

جعل الشيخ سيد درويش الموسيقا في متناول الجميع منطلقاً من بساطة الجملة الموسيقية وعمقها، ومن سهولة المفردة الشعرية المتداولة بين الناس ودلالاتها الجمالية، فرفعها إلى أعلى مستويات الإبداع والجمال بعبقريتة الموسيقية الفريدة والفذة، وجمل الأغاني الشعرية عنده ترتكز على الحكاية الشعبية والمثل الشعبي والحدث اليومي السياسي والاجتماعي والاقتصادي. فقد جاءت أغانيه انعكاساً للواقع المعيش، وتعبيراً صريحاً عما يعانيه الإنسان ابن الأحياء الفقيرة في شوارع الإسكندرية والقاهرة. وقد حلقَّت أغنياته في فضاءات أوسع وأعمق لتجعل الجملة الشعرية لها دلالات أجمل وأعمق، وإن الجو الذي خلفه سيد درويش بموسيقاه أثَّر بعمق في وجدان الناس، واستمر أثره لعشرات السنين، ومازالت موسيقاه تحدث الأثر نفسه كلما سمع أحدنا أغنية من أغنياته، أو مسرحية من مسرحياته. فموسيقاه تميزت تميزاً فريداً خرج من عبقري أجاد التعامل مع الموسيقا الأصيلة بذكاء وحس عالي المستوى. فعندما نسمع: (استعجبو يا فندية لتر الجاز بروبية)، ففي هذه الأغنية رصدٌ لحالات الغلاء التي اجتاحت البلاد قبل الحرب العالمية الأولى، أو أغنية (زوروني كل سنة مرة) أو (الحلوة دي قامت تعجن بالبدرية) أو (يا حلاوة أم إسماعيل في وسط عيالها) أو (سالمة يا سلامة) أو أغنية (شد الحزام على وسطك غيرو ما يفيدك).

ولد سيد درويش مرتين، المرة الأولى في ولادته الجسدية لأمه وأبيه في الإسكندرية سنة ،1892 وولادته الثانية الفنية لوطنه وعالمه العربي في القاهرة عام 1917. أما عن ولادته الأولى فكانت في حي (كوم الدكة) في الإسكندرية لوالد فقير هو درويش البحر، وأم قديرة على فقرها، اسمها ملوك، بعد ثلاث بنات. وكانت اثنتان من أخواته تزوجتا قبل ولادته، ومات والده النجار وهو في السابعة، بعدما أدخله مدرسة الحي، ثم أرسلته أمه إلى (كتَّاب حسن حلاوة) كي يتعلم تجويد القرآن، ثم ارتاد مدرسة (سامي أفندي)، وكان هذا يحب الأناشيد الحماسية، في حقبة احتشدت فيها الحوادث السياسية. وأذَّن الشيخ سيد في مسجد الشوربجي وهو لم يزل يافعاً، واستهواه الغناء، فاضطربت حاله المالية والعائلية زمناً، حين سلك نحو الغناء في مرابع لا تتناسب مع مكانته مقرئاً للقرآن، فاختصم وصهره، وكان يراوح بين نزوعه للغناء ومسايرة أهله وأقربائه، إلى أن خلع العمامة والقفطان، وبدأ يعمل في ورشة للبناء مغنياً يحض العمال على الجد، فسمعه أمين عطا الله فانضم إلى فرقته وسافر إلى بر الشام سنة ،1909 لم يوفق في رحلته الأولى مادياً، لكنه اكتسب خبرة كبيرة وهو ابن السابعة عشرة من عمره حين التقى بالموسيقي المخضرم الحلبي عثمان الموصللي، لكن عاد والتقاه أيضاً سنة 1912 في رحلة ثانية إلى الشام مع الفرقة ذاتها ليكتسب الكثير من الأغاني والأناشيد التراثية القديمة، وخلال العامين في بر الشام حقق ما كان يتوق له من جمعه للكتب والأناشيد الموسيقية التراثية.

وعندما اندلعت ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول كان الشيخ سيد له فضل كبير في تغذيتها بالأناشيد الوطنية والأغاني، وكان للمسرح دوره آنذاك في تقديم مآثر الثورة والثوار وتعرية الاحتلال والاستبداد من خلال المسرحيات التي كانت تعرض على خشبات المسرح.

استعد سيد درويش للسفر إلى روما لإكمال تعليمه الموسيقي لكن القدر لم يساعده على تحقيق حلمه فوافته المنية في الخامس عشر من أيلول عام 1923 في مسقط رأسه الإسكندرية حيث ذهب لاستقبال سعد زغلول في يوم عودته من المنفى.

العدد 1104 - 24/4/2024