مصر في ظل حكم «الإخوان» أزمة متصاعدة وأفق سياسي مسدود!

(النقد والاعتصام) وسائل المواجهة التي استخدمها البابا شنودة في وجه الرئيس الأسبق أنور السادات والرئيس المخلوع حسني مبارك، كانت خيارات حاضرة للبطريرك تواضروس الثاني بابا الأقباط الجديد في مصر، بعد الاعتداء الأول من نوعه في تاريخ مصر على المقر البطريركي.. فعلى خطا البابا شنودة يتابع البابا تواضروس الثاني عبر إعلانه الاعتصام في دير وادي النطرون، بعدما وجه انتقاداً شديداً للرئيس المصري محمد مرسي، محملاً إياه المسؤولية السياسية عن أحداث (الخصوص) والاعتداء على الكاتدرائية المرقصية الأرثوذكسية.

الأقباط ومرسي.. صدمة فقلق فترقب!

يترقب أقباط مصر بقلق خطوات الرئيس محمد مرسي، بعدما أثار وصوله إلى سدة الحكم صدمة وتخوف غالبيتهم، على الرغم من مشاركتهم في الاحتفالات التي أعقبت فوزه بالرئاسة، إلا أن علامات القلق الذي يعتري الأقباط لا يمكن أن تخطئها عين، حتى عين الرئيس مرسي نفسه، الذي التقى وفوداً كنسية بعد أحداث الكاتدرائية العباسية التي اندلعت إثر أحداث الخصوص، وحملت شواهد كاشفة لمدى حالة الاستقطاب التي يعيشها الشارع المصري.

لقد حاول الرئيس مرسي طمأنة الوفود الكنسية بقوله: (إنه يرى المسلمين والأقباط متساوين في الحقوق والواجبات).. إلا أن تعاون الأقباط مع النظام الإخواني، يتوقف على رؤيتهم لتحقيق مطالب المواطنة، ومن أهم مطالب الأقباط هو الإسراع في إصدار قانون موحد لبناء دور العبادة، وإصدار قانون يُحرّم التمييز على أساس الدين في الوظائف العامة، والقضاء على كل أشكال التمييز وتحقيق المواطنة الكاملة. ومن ناحية الانخراط في المسؤولية العامة، فإن الأقباط يطالبون بتمثيل متوازن سياسياً يتناسب مع تعدادهم في المجتمع، وتعيين نائب قبطي لرئيس الجمهورية، كما وعد الرئيس مرسي، وتمثيل الأقباط في الوزارة الجديدة تمثيلاً مناسباً، وفتح تحقيقات سريعة وعادلة في كل القضايا التي تعرض لها الأقباط من اضطهاد وظلم، والنص صراحة في الدستور على أن يترك الأقباط في أحوالهم الشخصية لديانتهم وتقاليدهم وأعرافهم في كل ما يتعلق بشؤونهم الدينية، ومراعاة احترام حقوق الإنسان، والتزام المعاهدات الدولية، واحترام حرية العقيدة وكفالة ممارستها.

ويبقى خوف الأقباط كبيراً.. ولدى السؤال عن سبب ذلك تأتيك الإجابة جاهزة، فإذا كان الأقباط لم يحصلوا على حقوقهم أيام حسني مبارك، فما بالك اليوم بعد فوز الإخوان المسلمين؟!

لايزال طرح الإخوان المسلمين وحديثهم عن مواطنة غير المسلم موضع التباس، إذ هي مواطنة من نوع خاص، غير تلك التي تعرفها الدولة المدنية الحديثة من حقوق وواجبات ومساواة أمام القانون، ومشاركة في الحياة السياسية، وسعي لتطوير جودة الحياة، والحصول على نصيب عادل من السلطة.

هذه النزعة إلى التوفيق بين فكرتي المواطنة وأهل الذمة، باعتبار أن الأولى تعبر عن رابطة الجنسية في الدولة الحديثة، والثانية تعبر عن صيغة تاريخية تمتع بها أهل الكتاب بوضع خاص في (الدولة الإسلامية)، وتثير قضايا إشكالية عديدة. فمن ناحية أولى يرى الإخوان المسلمون أن الأقباط مواطنون لهم (حقوق المواطنة كاملة) وفق التعبير المستخدم (لهم مالنا وعليهم ما علينا). من هنا فإن المواطنة والذمية يصعب تجاوزهما أو تلاقيهما حتى لو كان الدافع وراء ذلك خيراً، والسبب في ذلك أن الفكرتين- أي (الذمية والمواطنة)- تصدران من منطلقَيْن لا يمكن التوفيق بينهما، فالذمية تعبير عن حالة الغزو وسلطة الفاتحين، والمواطنة تعبير عن حركة المحكومين لاستعادة السلطة لأنفسهم من الحاكم المستبد الفاسد. فإن الذي حققته هذه الحركة هو على وجه التحديد نسخ (مبدأ الذمة)، وإحلال المواطنة مكانه التي قامت على أساس العقد الاجتماعي بين مكونات المحكومين، ومحصلة لواقعة تفريط الحاكم في سيادة البلاد، ثم استردادها بواسطة المحكومين معاً.

الإخوان المسلمون.. الحليف الناعم للغرب

حقق التحالف الغربي- الخليجي انتصاراً بتسليم السلطة في مصر إلى حزب (الحرية والعدالة) تكريساً للتحالف الاستراتيجي مع الإسلام السياسي في المنطقة.. ففي القاهرة شدد وزير الخارجية الأمريكية جون كيري على سبل دعم العلاقات المصرية – الأمريكية، وأهمية معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل. وهو الخط الأحمر الذي أشار إليه الرئيس محمد مرسي في خطابه الأول الذي كان عاطفياً بامتياز، وحمل في طياته ضمانات لإسرائيل ورسائل للقريب والبعيد حول نهج السياسة الخارجية المصرية في ظل حكم حزب (الحرية والعدالة). وفي لقائه مع رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح السيسي، حث عميد الدبلوماسية الأمريكية كيري على بقاء العسكر بعيدين عن التدخل في السياسة، ليضع بذلك نقاط واشنطن على حروف المعادلة المصرية الداخلية، وإنعاش الجدل حول صراع الصلاحيات ما بين الرئيس المنتخب والعسكر لصالح الإخوان المسلمين، في انتظار ما قد يصدر عن العسكر من ردود إضافية، إلى موقف شباب الثورة، مروراً بقضية الأقباط والمرأة.

إن التجرؤ على حقوق الآخرين الذي يمنحه المؤمن الإخواني والسلفي لنفسه، سيكون هو بحال المعركة الكبرى المتوقعة تحت نظام الإخوان، وهي معركة الحرية والعدالة الاجتماعية والتنمية في أساسها وفي أسمى معانيها وممارساتها. ومن المتوقع أن يسفر الدور السياسي الذي تُحضّره الإدارة الأمريكية لمصر في المنطقة إلى تطورات دراماتيكية على الساحة المصرية تتمثل في ملاحقة شباب الثورة الذي يقوم بالتحضير لثورة جديدة على نظام الإخوان المسلمين. كما سيتجدد نشاط الخارجية المصرية على خط السياسات الخليجية- الطائفية، لاسيما فيما يخص الملف النووي الإيراني، إذ يتم التأكيد أن إيران هي (العدو الأساسي للعرب) لا إسرائيل.. وتكريس مفهوم الطائفية في المنطقة التي باتت بلدانها ساحة الحرب بالوكالة بين الأقطاب المتصارعة في عالم اليوم، وباتت المذهبية أداة هذه الحرب.

وإذا صدقت مراكز البحث الأمريكية حول تقديم ضمانات وتطمينات أو قطع (تعهدات)، فإن الإسلام السياسي سرعان ما يجد نفسه في مواجهة مع رأي عام شعبي مصري رفض أن يذعن للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي. وحسب استطلاع الرأي الذي أجراه معهد (بلوم برغ بزنس ويك) الأمريكي مؤخراً، فإن 54% من المصريين يتمنون إلغاء معاهدة الصلح مع إسرائيل، و36% يريدون تعديلها.

وفي الواقع العملي لن تستقيم أي علاقات عربية أو إسلامية مع الغرب دون تكيف حد أدنى مع ضمانات استراتيجية لأمن إسرائيل، كما توجد قناعات راسخة في الوجدان الشعبي العربي والإسلامي بحكم التجربة، تجمع على وجود تناقض بين إقامة علاقات حتى عادية مع الغرب وبين الاستمرار في موقف عدائي تجاه إسرائيل. ويتضح هذا التناقض اليوم بين الإخوانية لأحزاب الإسلام السياسي التي وصلت إلى السلطة في مصر وتونس، وبين العلاقات الاستراتيجية القائمة بين هذين القطرين العربيين وبين الولايات المتحدة وأوربا، ليتحول موقف هذه الأحزاب وموقف الحكومات التي ترعاها الولايات المتحدة إلى محك اختبار لصدقية خطابها، وبخاصة في الشأن الفلسطيني على وجه التحديد، فهي مخيرة عملياً بين التخلي عن خطابها الفلسطيني التقليدي، وبين التخلي عن العلاقات الاستراتيجية لحكومات البلدان التي تقودها مع الولايات المتحدة.

خلاصة القول

كل المؤشرات في مصر تدل على أزمة سياسية عميقة طويلة الأمد، تصاعدية في منحاها، ومسدودة في أفقها السياسي، وتدل بوضوح على مأزق فعلي بلغته مصر، ولا يمكن الخروج منه إلا عبر تنازلات وتسويات. وأن الخطوة الأولى مطلوبة من الرئيس محمد مرسي لإزالة الآثار السلبية المترتبة على قراراته الأخيرة، ولخلق ظروف ومناخات حوار هادف ومنتج يعيد إطلاق دورة جديدة للمرحلة الانتقالية (جمعية تأسيسية جديدة ودستور جديد، واستفتاء عليه، ثم انتخابات نيابية ورئاسية)، بعدما عادت الأوضاع إلى نقطة الصفر، إلى نقطة البدايات لثورة كانون الثاني ،2011 لا بل إلى ما هو أصعب وأسوأ.

لقد تعثرت مصر في تجاوز العديد من القطوع الأمنية، ناهيك بحصول صدامات واشتباكات بين التظاهرات المتضادة والمتقابلة، وتورطت أكثر في أزمتها التي سجلت وقائعها بالأمس القريب ثلاثة تطورات بارزة تصب كلها في خانة إضعاف الرئيس محمد مرسي وتآكل مصداقيته وصورته وسيطرته على الوضع، وهذه التطورات هي:

1- دخول مباشر لعبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع في (حكومة مرسي)، على خط الأزمة، بدعوته إلى (حوار وطني شامل في مقر عسكري) بطريقة توحي أن العسكر قد انتقلوا من موقع الطرف في الأزمة إلى موقع الحَكَم، ومن موقع المتفرج على الأحداث إلى موقع (إدارة الصراع وضبط إيقاعه) ووضع خطوط حمر.. وهذا الأمر يعني في وجهه الآخر أن الرئاسة المصرية تحولت من حكم إلى طرف، وأن الرئيس مرسي يتصرف بوصفه رئيساً لجماعة الإخوان المسلمين، لا بوصفه رئيساً لمصر.

2- تمرد السلطة القضائية على الرئاسة وقراراتها، بحيث اضطر الرئيس مرسي إلى إجراء الاستفتاء على مرحلتين بسبب نقص فادح في عدد القضاة المشرفين عليه. (انقسم القضاء، والأكثرية الساحقة ضد الرئيس مرسي، وهناك قسم معه تابع لوزير العدل والنائب العام المعيّن وغير المعترف به من القضاة).

3- تطور الشعارات في الشارع من المطالبة ب(إسقاط الإعلان الدستوري والاستفتاء) إلى المطالبة بإسقاط النظام والرئيس، أي التعامل مع محمد مرسي على أنه (حسني مبارك جديد)، وأنه على خطاه سائر.

العدد 1105 - 01/5/2024