بعد استقالة سلام فياض: آفاق النهوض الشعبي الفلسطيني في مواجهة الاحتلال!

تعددت وجهات النظر حول استقالة رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض، وتراوحت الاجتهادات والتحليلات بين من يرى أن الاستقالة جاءت نتيجة الضغوط الفتحاوية الممارسة عليه، لاسيما بعد رفضه تعيين وزراء منهم في حكومته، وبين من يرى أن الاستقالة جاءت نتيجة لصراع على الصلاحيات بينه وبين مؤسسة الرئاسة، ولاسيما بعدما قَبِل فياض استقالة وزير المالية نبيل قسيس، من دون العودة إلى الرئيس أبو مازن.

لكن من الواضح أن الاستقالة جاءت بعد ضغوط مارستها الإدارة الأمريكية على الرئيس أبو مازن لإبقاء سلام فياض في منصبه، خصوصاً بعدما تحدثت مصادر إعلامية مقربة من الرئاسة، عن اتصال أجراه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري مع أبو مازن يوم 13/4/،2013 نصحه فيه بعدم قبول الاستقالة.

الضغط الأمريكي أثار حفيظة الكثيرين من الوسط السياسي الفلسطيني، وحتى في حركة فتح، إذ عبر عدد من قادتها عن شعورهم بـ(المهانة والخجل بسبب هذا التدخل السافر في الشؤون الداخلية الفلسطينية). وفي هذا السياق يصبح قبول الاستقالة في هذا التوقيت وكأنه يشكل تحدياً للإدارة الأمريكية، بينما حقيقة الأمر، أن القضية برمتها لا علاقة لها بالتحدي أو عدم التحدي!

والموضوع وما فيه أن السلطة وجدت أن موقفها سيكون حرجاً أمام جمهورها الفلسطيني، في حال استجابت علناً للطلب الأمريكي، خاصة أن الرئيس أبو مازن لا يريد أن يظهر أمام شعبه بأنه (دمية أمريكية)، وهو يحاول الظهور بمظهر الحريص على القرار الفلسطيني المستقل، وقد اصطدم سابقاً مع الإدارة الأمريكية في عدد من القضايا مثل (التوجه إلى الأمم المتحدة، وحضور قمة عدم الانحياز في طهران).على كل حال، إن الإدارة الأمريكية لا ترسم سياستها على أساس وجود أو عدم وجود شخص ما في مركز القرار، بل هي ستنتظر من سيكون خليفة سلام فياض، وستعمل على أن يكون هذا الشخص في إطار التسوية، ويعترف بالدور المركزي للإدارة الأمريكية في أي تسوية قادمة، بحيث لا تختلف الشخصية المقبلة في سياستها عن سياسة سلام فياض.

نهوض شعبي يتحدى الأمر الواقع

لا تكتمل صورة ما سبق ذكره من دون رؤية حالة الاختمار السياسي والاجتماعي والوطني التي تشهدها الأراضي الفلسطينية المحتلة، على خلفية اتساع فجوة عدم الثقة بين الجمهور الفلسطيني والهرم السياسي على مستوى السلطة والفصائل في ظل تفاقم مأزق عدم القدرة على تحويل مشروع سلطة الحكم الذاتي إلى دولة سيادية مستقلة، ووصول المفاوضات إلى طريق مسدود، ومأزق المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، وارتهانها في قطاع غزة لحاجة حكومة حركة حماس، وتثبيت حالة التهدئة، في مقابل تخفيف الحصار عن القطاع، واستمرار حالة الانقسام الداخلي بين السلطتين القائمتين في كل من الضفة والقطاع.

فمنذ انطلاق مسار الانتفاضات الشعبية في سياق ما أطلق عليه (الربيع العربي) في المنطقة، بدأت تنمو في الأراضي الفلسطينية حالة اختمار تنشد تغيير المسار الحالي بقوة الإرادة الشعبية، وتعبر عن نفسها تارة باحتجاجات داخلية ضد سياسات السلطة الاقتصادية والاجتماعية، وتارة باحتجاجات ضد الاحتلال والاستيطان، وطوراً بالمطالبة بتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، في إطار عملية إعادة بناء المشروع والتمثيل الوطني، عبر الانتخابات النقابية والتشريعية والرئاسية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده.

وتصدرت المشهد الجموع الشبابية على اختلاف تلاوينها السياسية والفكرية، وطبيعة فاعلياتها الميدانية، غير أنها تمكنت على امتداد عام 2012 من التوافق على العمل تحت مظلة (فلسطينيون من أجل دحر الاحتلال والاستقلال والكرامة).

هذه المظلة التي ضمت الجموع الشبابية في الضفة وغزة، وحافظت على تواصل مع مجموعات شبابية فلسطينية في عدة بلدان عربية وأجنبية، واستطاعت هذه المجاميع تنظيم عدم فاعليات في إطار ما هو مشترك بينها، خاصة فيما يتعلق بمواجهة الاحتلال والاستيطان وجدار الفصل العنصري، إلى جانب مشاركتها الفاعلة في مبادرات شتى، بدءاً من مبادرات فرض الأمر الواقع الفلسطيني عبر إقامة (القرى الرمزية) في المناطق المهددة بالمصادرة والاستيطان، مروراً برفض إعادة استنساخ تجربة المفاوضات العقيمة، وتنظيم فاعليات التضامن مع الأسرى والتصدي للتطبيع، وليس انتهاء بتقديم الدعم والعون لصمود الفلسطينيين في منازلهم المهددة بالإزالة والهدم في القدس وحولها، وفي منطقة الأغوار، بما يشمل المساعدة في إعادة بناء مساكنهم بعد هدمها، علاوة على مبادرات العمل الطوعي لدعم صمود الفلاحين وتمسكهم بالأرض، وغير ذلك كثير.

تجاوز استعصاءات المصالحة

لقد ساهم هذا الاتساع في مجالات نشاط الجموع الشبابية، لاسيما خارج الكانتونات الواقعة تحت سيطرة السلطتين (رام الله وغزة)، في تعزيز الحوار الداخلي بين مكونات الشعب الفلسطيني في إطار (فلسطينيون من أجل دحر الاحتلال، والاستقلال والكرامة)، فباتت أقرب إلى التوافق على رؤية وطنية موحدة لدور الشعب في إعادة بناء الحركة الوطنية، واستنهاض المشروع السياسي والاجتماعي، والتوافق على برنامج عمل مشترك في المرحلة المقبلة يركز على رفض بقاء الوضع القائم على حاله، بما ينطوي عليه من عناصر يمكن أن تخدم المشروع الاستيطاني العنصري على الأرض.

وإلى جانب استمرار فاعليات التضامن مع الأسرى، ونقل المواجهة الشعبية إلى مشارف القدس ومناطق التماس مع المستوطنات وجدار الفصل العنصري، فإن تصاعد دور التيارات الشبابية في رفض إعادة استنساخ المسار التفاوضي السابق، والمطالبة باستراتيجية وطنية شاملة تستند إلى إعادة بناء الوحدة الوطنية في إطار (م.ت.ف)، أدى دوراً في إيصال رسالة واضحة تحمل هذه المضامين، ولاسيما عشية زيارة الرئيس الأمريكي أوباما ووزير خارجيته جون كيري إلى المنطقة. فقد دعت جموع الشباب إلى رفض الزيارة، والتظاهر ضد العودة إلى نهج المفاوضات العقيم، وطالبت بإتمام المصالحة وإنهاء حالة الانقسام، وأكدت في بيان حمل تواقيع المجموعات الشبابية أن (زيارة أوباما وكيري تأتي في الوقت الذي يخوض فيه أسرانا معركة الأمعاء الخاوية التي فرضوا فيها أنفسهم على الجميع وجابهوا تعنت الحكومة الإسرائيلية وصمت الإدارة الأمريكية عن القتل البطيء الذي يتعرضون له).

ويشير اتساع حجم المشاركة الشبابية في موجات الهبات الشعبية والفاعليات والمبادرات المتعددة، إلى تعزُّز ثقة الشعب بلجان المقاومة، في ظل تراجع الثقة بقدرة السلطتين القائمتين في الضفة وغزة على التحول إلى دولة مستقلة وسيادية عبر المفاوضات وحدها، بل عبر الجمع بين المقاومة والمفاوضات. كما يعبر ذلك عن تنامي الوعي الشعبي باقتراب اللحظة التي يمكن أن يقرر الفلسطينيون فيها العودة إلى أخذ زمام الأمور بأيديهم في ظل استمرار الانقسام الداخلي، وتراجع دور مكونات الحركة الوطنية.

وساهم الإخفاق في التوصل إلى توافق خلال اجتماع لجنة تطوير (م.ت.ف) وتفعيلها في القاهرة يوم 8/2/،2013 وما تلاه من تبادل للاتهامات بين حركتَيْ فتح وحماس، في تفاقم حالة اللامبالاة في أوساط الرأي العام إزاء الجهود المتكررة لإنجاز المصالحة الوطنية، بل الخشية من أن تؤدي هذه الجهود في أحسن الأحوال إلى توافق على (إدارة الانقسام) بدلاً من إنهائه. فقد برزت في الاجتماع تباينات بشأن عدة قضايا رئيسية أهمها: الخلاف على موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في ظل إصرار الرئيس أبو مازن على إصدار مرسوم بإجرائها خلال ثلاثة أشهر، بالتزامن مع إصدار مرسوم بتشكيل حكومة المستقلين برئاسته، إضافة إلى الخلاف على نظام الانتخابات المعتمد (نسبي كامل أم مختلط)، ونسبة (عتبة الحسم) لكل من الانتخابات الرئاسية وانتخابات المجلس التشريعي في الداخل، والمجلس الوطني في الخارج، والخلاف إزاء الجمع بين عضوية المجلس الوطني والتشريعي، والخلاف على أهلية لجنة الانتخابات المركزية للإشراف على انتخابات المجلس الوطني، والخلاف بشأن تقسيم الدوائر الانتخابية للشتات الفلسطيني.

خلاصة القول

لا تزال فلسطين تضع قدماً داخل الأمم المتحدة وأخرى خارجها.. ففي أعقاب رفع مكانتها إلى دولة بصفة مراقب، (جمَّدت) القيادة الفلسطينية التحرك في اتجاه توقيع الاتفاقات والمعاهدات الدولية، تمهيداً للانضمام إلى مختلف المنظمات والوكالات التابعة للأمم المتحدة بوصفها عضواً كاملاً. وبذلك جُمّد أيضاً التحول نحو استراتيجيا موحدة تركز على تكريس الدولة السيادية على الأرض، بانتظار توظيف انتصار الأمم المتحدة لتحسين شروط استئناف المفاوضات.

في المقابل كانت الإرادة الشعبية تتجاوز السياسة الفلسطينية الرسمية في رام الله وغزة، لتبدأ التركيز على استراتيجيات مواجهة تركز على فرض الأمر الواقع الفلسطيني على الأرض، عبر أشكال كفاحية مبتكرة، مثل إقامة قرية باب الشمس، ثم قرى الكرامة والمناطير وكنعان على الأراضي الفلسطينية المهددة بالمصادرة والاستيطان، فاتحة بذلك أفق المقاومة الشعبية على احتمالات انفجار انتفاضة ثالثة يمدها بالوقود أسرى مضربون باتوا رموزاً لإرادة تحدي الاحتلال.

العدد 1104 - 24/4/2024