الرحبانيان… وحكاية الخريف

التقطت المدرسة الرحبانية دلالات فصل الخريف الجمالية عبر العديد من الأعمال الفنية في (فن الإسكتش) والمسرح الغنائي والأغنية الإفرادية، فجاء الكثير من الأغنيات الرحبانية عاكسة مفردات الخريف (تشرين وأيلول) ضمن جمل موسيقية موظفة دلالياً تحمل أبعاد أول البرد وأواخر الصيف، وعلاقة المبدع بتلك المفردة شعرياً وموسيقياً، وقد ظهرت تلك المفردات في ذروتها  بأغنية (ورقو الأصفر ذهب أيلول)، رغم أن اللحن في جوهره لشيخ الملحنين فيلمون وهبة، إلا أن ثقافة التوزيع والأداء عكست  روح التجربة الرحبانية.

فمنذ البدايات، بداية التجربة الرحبانية كان لأيلول والخريف حضور كبير في الإسكتشات الإذاعية التي دخلت فيما بعد  في إطار المسرح الغنائي، فإضافة إلى العديد من العناوين التي اختارها الأخوان رحباني لأعمالهما المسرحية القصيرة، إلا أن اسكتش (أغاني أيلول) كان له النصيب الكبير في إظهار قدرات عاصي ومنصور اللحنية والاشتغال على الخريف في الكثير من الجمل اللحنية. ورغم أن النص يندرج ضمن الحكاية الغنائية المعدومة الحوار بين شخصية فيروز والمجموعة إلا أن اللحن ينسجم في كثير من اللحظات مع حكاية أيلول.

ونلمس ذلك أيضاً في إسكتش  (كاسر مزراب العين) والذي  يحاكي حكايات الضيعة بأبعادها الجمالية وفصولها المختلفة،فتظهر تركيبته إيقاعية بين الزجل والشعر المحكي والعتابا والمواويل.

 لكن الأخوين رحباني في الإسكتشات عموماً أضافا إلى أداء الأغنيات الفلكلورية (الهارموني) التوزيع الذي ميز تجربتهما الإبداعية وكشف في أدائهما أجواء الضيعة وتفاصيل الحياة البسيطة التي لم تلوثها العلاقات السائدة في المجتمع المديني.

 وكان الاعتماد في الكثير من الأعمال الغنائية على التراث  الشعبي، فشخصية (سعدة)  في إسكتش (كاسر مزراب العين)  تظهر وكأنها حكاية ابتعدت عن التراث عبر الحلول الدرامية في الحوارت المباشرة والحوارت اللحنية فيظهر  الإسكتش في جملة موسيقية تبدأ وتنتهي بأصوات وجمل موسيقية لحنية موزعة بين المجموعة وفيروز. إضافة إلى  الانسجام والهارموني في إسكتش (حصاد ورماح) الذي كتبه الأخوان رحباني في تلك المرحلة.

أما في مجال الغناء الإفرادي وخصوصاً مع صوت السيدة فيروز، فقد أفرد الأخوان رحباني لفصل الخريف مساحات واسعة في إبداعاتهما اللحنية، وخصوصاً في مجموعة (القطاف) أوائل ستينيات القرن الماضي،  وأغنية (كرم صغير ودار)، وأغنية (في قهوة ع المفرق).

 وتشير هذه الأغنيات المتباعدة زمنياً في الإبداع  إلى حكاية الخريف في كثير من تفصيلاتها. ففي الكثير من التفصيلات في المفردة الشعرية واللحن نلمس مفردات (النبيذ  الشتي  ورق الخريف  وأواخر الصيف آن الكرم يعتصر  والبرد )، تلك المفردات لاتغيب عن تجربة الرحبانيين في كثير من الأغنيات الإفرادية.

وهناك الكثير من الأعمال والأغنيات التي يظهر فيها الخريف وحكايته ضمن الفكرة الناظمة للأغنية فنكتشف مفرداته، وتظهر بين الحين والآخر في الأغنية الواحدة. فحين نسمع أغنية (مشوار) التي تحكي حكاية حب بسيطة نجد الخريف  يظهر في الجمل اللحنية والشعرية، وخصوصاً في بداية الأغنية (مين قال حاكاني وحاكيتو ع درب مدرستي / كانت عم تشتي  ولولا وقفت رنخت فستاني/ شو هم كنا صغار ) إلى  آخر الأغنية.

وحتى في ذروة اللحن (لحن القصيدة) المغناة  نجد أن عاصي ومنصور تركا للخريف أجواءه الجمالية على القصيدة، وخصوصاً في أغنية :

شآم أهلوكِ أحبابي وموعدُنا

أواخرَ الصيفِ آنَ الكرمِ يُعتصرُ

وفي عموم تجربة المدرسة الرحبانية في الإسكتش والمسرح الغنائي والموسيقا والغناء، نجد أن حكاية الخريف ومدلولاته الجمالية تكاد تطغى على جمالية اللحن والكلمة والأداء والحوار، في لغة موسيقية عذبة رصدت أجواء الطبيعة وتفصيلاتها موسيقياً وشعرياً، وأخذت هويتها  الجمالية الخاصة في بعث الحياة في الخريف من جديد.

العدد 1105 - 01/5/2024