محاولات الحوار و«التفاهم» الأمريكي ـــ الطالباني وتبعاته

منذ افتتاح حركة طالبان مكتبها الرسمي والعلني قبل أسابيع في العاصمة القطرية الدوحة، أرادت، وهي المصنفة دولياً حركة مسلحة إرهابية، أن ترتقي بهذا التمثيل إلى مستوى سفارة إمارة أفغانستان الإسلامية. وبسبب عوامل عديدة قطرية و(إقليمية) و(دولية) غربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، اتفق على أن يُصنَّف هذا المقر الرسمي، مكتباً سياسياً للحركة معنياً بالاتصالات الرسمية بين قيادة الحركة وبين الأطراف الإقليمية و(الغربية) – الأمريكية بوصفه قناة اتصال مشرعنة ومقوننة بين قيادة الحركة والأطراف (الكثر) الساعين إلى عقد لقاءات واجتماعات معها تساعد في ترسيم قنوات الاتصال غير العلنية السابقة، وهذا ما أزعج الرئيس الأفغاني حميد كرزاي وحكومته أيضاً.

تجدر الإشارة بداية إلى أن أحد أهداف الغزو الأمريكي – الأطلسي لأفغانستان في نهاية عام ،2001 تمثل في القضاء على حركة طالبان السلفية الأصولية المتزمتة، وإنقاذ البلاد من سلطة أصولية متطرفة حكمت البلاد بطرق بدائية تعود إلى العصور الحجرية، والتي عادت العالم بأسره، وبضمن ذلك الحركات الإسلاموية الأقل تزمتاً. واستنفدت أمريكياً و(غربياً) وظيفة حركة طالبان ومعها القاعدة في أفغانستان، بعد أن ساهمت المساعدة الأمريكية- الأطلسية في إسقاط حكومة نجيب الله العلمانية، وتالياً بات ضرورياً تحجيم أو تدجين هذه الحركة التي خرجت من (قمقمها) ولم يعد بإمكان إدارة واشنطن توجيهها وفق المخططات الأمريكية في أفغانستان وغيرها.

ومع استمرار الأزمة الأفغانية (الداخلية) وعدم قدرة كابول وحلفائها على توفير الأمن والاستقرار، ولو نسبياً، في أفغانستان، وصولاً إلى سيطرة طالبان وحلفائها على مناطق واسعة من البلاد شرقاً وغرباً وجنوباً، وبخاصة المناطق الحدودية، وصولاً إلى عملياتها الانتحارية المتكررة في العاصمة كابول، وعدم قدرة نظام كرزاي على بسط سيطرته على العاصمة وأجزاء البلاد الأخرى، فضلاً عن اقتراب الموعد الدولي المقرر والمفترض لخروج قوات الاحتلال الأجنبي، وبخاصة الأطلسي- الأمريكي من أفغانستان في نهاية عام ،2014 نشطت الاتصالات بين الممثلين (الدوليين) على اختلافهم، وبضمنهم الأمريكيين أولاً، بهدف الوصول إلى حوارات أولية، وتالياً (تفاهمات) ما أمكن ذلك، بين حكومة كابول والمعارضات المسلحة، وفي الصدارة منها حركة طالبان تؤمن نوعاً ما من (التفاهم) و(التوافق) بين حكومة كابول ومعارضيها.

وإن كانت المعارضات المسلحة، وبضمنها حركة طالبان وتفريخاتها، قد استفادت بالحدود القصوى من ضعف حكومة كرزاي وإمكاناتها المتواضعة، ومن رفض الأفغان عموماً للوجود الأجنبي الاحتلالي من جهة، ومن قدراتها العسكرية وإلحاقها خسائر جسيمة بقوات الاحتلال وحكومته من جهة ثانية، فإن الجهود تكثفت في السنوات القليلة الماضية، وخاصة في شهورها الأخيرة، بهدف إيجاد لغة مشتركة بين الطرفين الأفغانيين، وبدعم وتشجيع أمريكي (غربي)، واجهته معضلة رئيسية عنوانها الشرط الطالباني المتمثل بضرورة الانسحاب الكامل لقوات الاحتلال الأجنبي، وتعديل الإجراءات الحكومية، وبضمنه الدستور الذي اعتمدته حكومة كرزاي في ظل الاحتلال ورعايته.

ومثلت هذه الاتصالات، على مستوياتها المختلفة، إقراراً (دولياً) -احتلالياً وأمريكياً خاصة، بضرورة التوصل إلى تفاهمات ما بين حكومة كابول وحركة طالبان وما تمثله. وكان طبيعياً أن تتحرك في هذا الإطار الأطراف والأدوات المحلية التابعة والذيلية، وفي مقدمتها مشيخة قطر، التي توجت جهودها بفتح مكتب اتصال رسمي بين حركة طالبان الإرهابية دولياً (الذي كان مفترضاً ومخططاً القضاء عليها)، وبين الأطراف الأخرى، وبخاصة الأمريكية الهادفة إلى إنجاز انسحاب (مشرف) من أفغانستان في عام 2014 يحفظ ماء الوجه في الحد الأدنى، والمصالح الأمريكية في منطقة آسيا الوسطى أيضاً.

تدرك واشنطن، قبل غيرها، تبعات التعامل المباشر أو غيره مع حركة طالبان، بعد أن أوعزت لأدواتها (قطر تحديداً) بفتح مكتب الاتصال الرسمي، بغض النظر عن طبيعة تسميته، وما يمثله من إقرار بالتعامل مع حركة إرهابية أصولية ظلامية مسلحة، حاولت واشنطن استخدامها، ومن ثم تدجينها أو استخدامها خدمة لمصالحها، وفشلت في ذلك. وتحاول راهناً التوصل مباشرة، بعد أن فشلت الوساطات غير المباشرة في إيجاد (تفاهم)، ولو أولي بينهما، أو بواسطة أدواتهما مع هذه الحركة، ومع حكومة كرزاي التي تواجه إحراجات وتبعات قنوات الاتصال هذه.

واشنطن الساعية بكل جهودها وإمكاناتها لترسيم قنوات الاتصال هذه نزولاً عند شروط حركة طالبان، التي تدرك حجم المأزق الاحتلالي الأمريكي-الأطلسي من جهة، وعدم قدرة حكومة كرزاي توفير الأمن والاستقرار الآن وبعيد انسحاب هذه القوات الاحتلالية من جهة ثانية. أكدت عبر الاتصالات الأولية مع واشنطن، مرة أخرى، شروطها المتمثلة في الانسحاب الكامل لقوات الاحتلال، (وهذا ما تحاول واشنطن تفاديه عبر الإبقاء على قواعد عسكرية (مؤقتة) في أفغانستان)، كذلك في ضرورة تغيير كل ما أنجز (دستورياً) و(قانونياً) في مرحلة الاحتلال الأجنبي منذ نهاية عام 2001.

لم تعد الأزمة طالبانية – أمريكية – حكومية أفغانية رسمية، على أهميتها، فهي تطول دول الجوار الأفغاني، التي تعاني غالبيتها الساحقة من التشابك والتمازج الديمغرافي العرقي والإثني أولاً، ومن تبعات الأزمة الأفغانية بعد أكثر من عقد على احتلالها وفشلها في تنفيذ مخططاتها ثانياً، ومن تفريخات القاعدة وحركة طالبان في الجوار الأفغاني، وصولاً إلى المنطقة العربية ثالثاً، وتداعيات ذلك كله.

الولايات المتحدة التي أنتجت هذه الحركة خدمة لأهداف آنية، تمثلت في استخدامها للقضاء على النظام الأفغاني السابق، وإخراج السوفييت من المنطقة، تعاني منذ فترة غير قليلة، تبعات ما أوجدته، ومن فشلها في القضاء على هذا الوجود الأصولي – المتطرف، ومن تنامي امتداداته وأخطاره على الولايات المتحدة وحلفائها أيضاً. وفي النشاط والملاحقة الأمريكية الاستخباراتية الدائمة لتبعاتها وإفرازات هذا المنتج الأمريكي المتهور والقصير النظر.

أما مسألة محاولة الوصول إلى بدايات تشاور، ولقاءات رسمية أو غيرها، (وقد بدأت سراً منذ سنوات عديدة) بهدف الوصول إلى (تفاهمات) أولية بموافقة الوكيلة القطرية (اضطراراً أو موافقة)، تعاني أيضاً تبعات واقعها القائم في أفغانستان، كذلك انتشار هذا المد الأصولي في العديد من المناطق الأخرى، وخاصة في الدول العربية والإفريقية وما يسمى بـ(دول الربيع العربي)، والدول التي وفرت الحاضنة والأرضية الخصبة لهذا التيار بتلاوينه المعتدلة أو المتزمنة، ومؤخراً في العراق، ومنذ سنتين في سورية أيضاً. كذلك في العمليات الإرهابية التي نشهدها بين حين وآخر في العديد من الدول الأوربية، التي غضت النظر (مؤقتاً)، أو دخلت في إطار اللعبة الأمريكية لتغيير النظام في أفغانستان وغيرها.

محاولات أمريكية نشطة، تهدف إلى الوصول إلى قواسم مشتركة ما، مع حركات أصولية، صنفتها ولاتزال ضمن اللوائح الإرهابية رسمياً. وتسعى جاهدة، منذ فترة ليست قصيرة، إلى مهادنتها راهناً، بعد أن اشتد عودها واتسع نفوذها، ولم تعد واشنطن قادرة على لجمها، بل محاولة استخدام تفريخاتها وأدواتها في مناطق ودول أخرى، ستواجه نفس المصير البائس، كما واجهته، ولاتزال في هذه الشهور، التي ستزداد صعوبة مع انسحاب القوات الأمريكية المحتلة المفترض من أفغانستان في نهاية عام 2014.

وإذ يصح على السياسة الأمريكية استعادة المثل القائل (على نفسها جنت براقش)، فإنه يصح أيضاً على الأدوات المحلية و(الإقليمية) الدائرة في الفلك الأمريكي، التي تعاني تبعات هذا التوجه راهناً وفي المستقبل القريب أيضاً. وأن تفكر ملياً في أوَّليات المصالح الأمريكية الآنية والمستقبلية التي تعاني أزماتها، وأن محاولات الاتصال الرسمي الأمريكي، على مستوياته المختلفة، ومحاولة (التفاهم) مع حركة طالبان، وما تمثله، على علاتها ونواقصها وظلاميتها ما هي إلا نتاج لهذه السياسة الانتهازية والضيقة الأفق والكثيرة الإضرار محلياً ودولياً، وبضمنها على الولايات المتحدة نفسها وعلى حلفائها وأصدقائها أيضاً. فضلاً عن تناقضها مع المواقف الرسمية الأمريكية المعلنة ومع القرارات الدولية حول محاربة التطرف والإرهاب والأصولية.

العدد 1105 - 01/5/2024