الحدث المصري وإعادة رسم دور الإسلام السياسي في منطقة الشرق الأوسط

إن القوات المسلحة المصرية، بانحيازها لإرادة المصريين الذي اجتمعوا بميدان التحرير مطالبين الرئيس مرسي بالتنحي وإجراء انتخابات مبكرة، أعادت الاعتبار للمعاني العميقة للثورة الشعبية ضد نظام فَشِلَ في إدارة شؤون البلاد والعباد، وحاول التعرّض للحريات العامة والخاصة، ولم يهتم بإعادة مصر إلى موقعها المحوري على الصعيد الإقليمي وفي العالمين العربي والإسلامي. والقوات المسلحة المصرية بعملها هذا تكون قد أزاحت من مراكز صنع القرار في مصر حركة (الإخوان المسلمين) التي كانت كل منجزاتها على الصعيد الداخلي تتمثل في عزل آلاف الموظفين الذين كانوا يعملون مع النظام السابق، والعمل على تثبيت موظفين من محازبيهم وأنصارهم مكانهم، من أجل تنفيذ مخطط ما يسمى (أخونة الدولة). وفي سبيل تحقيق هدفهم هذا، مارسوا أبشع عمليات الإقصاء التي تدل على نهم شديد للسلطة. وفي عملهم هذا كرروا تجربة من سبقهم في الحكم، وخصوصاً في فترة السادات ومبارك. لكنهم فعلوا ذلك، من دون رشوة شعبهم بالقليل من الكرامة وخداعهم ببعض المنجزات، ولم يحاولوا فعل شيء من أجل رفع العبء عن صدور أناس تاقوا إلى الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.

هذه التجربة في الحكم تطرح تساؤلاً حول مستقبل العمل السياسي لتيارات (الإسلام السياسي) ودورها في الحياة العامة في مصر والمنطقة.

المساران المحتملان للإسلام السياسي على الصعيد الداخلي المصري وخيار الحرب الأهلية في المحروسة

قد لا يعني عزل الرئيس محمد مرسي، وخروج جماعة الإخوان المسلمين من حكم مصر انتهاء ظاهرة الإسلام السياسي، التي تنوعت مصادرها بين تيارات إسلامية مختلفة، سواء أكانت سلفية متمثلة في ذراعيها السياسيين، حزبَيْ النور والوطن، أم الجماعة الإسلامية، متمثلة في ذراعها السياسي حزب البناء والتنمية، أم جماعة الإخوان المسلمين التي خرجت أخيراً من السلطة. فمن المتوقع، وفقاً لقراءة المشهد المصري بعد 30 حزيران، أن تتخذ ظاهرة الإسلام السياسي أحد المسارين التاليين:

المسار الأول: المشاركة المحدودة، وتعني أن ظاهرة الإسلام السياسي ستظل قائمة، ما دامت العوامل المنتجة لها باقية. فالقوة التنظيمية، والدعم المادي والمعنوي للتيار السلفي، بسبب موقفه العام من نتائج استكمال ثورة 25 كانون الثاني في 30 حزيران، ومبادراته في عدم التحريض على العنف، وقبوله تعديلَ مسار الثورة، قد تؤدي إلى استمرار وجود أحزاب للتيارات الإسلامية متوافقة مع المرحلة الجديدة، حتى ولو اقتصرت على المشاركة البرلمانية المحدودة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، بغض النظر عن توجهات الجماهير ومواقفها من تيارات الإسلام السياسي، بسبب العنف الذي ارتكبته جماعة الإخوان المسلمين في الشارع المصري بعد عزل رئيسها، الأمر الذي يعني أن مشهد الإسلام السياسي في مصر مكتمل من دون الإخوان، حتى لو رفضوا المشاركة السياسية.

المسار الثاني: الانحسار النسبي، وهو يتعلق بحدوث تراجع نسبي لظاهرة الإسلام السياسي لفترة زمنية طويلة، ما بين 5 و10 سنوات، على غرار ما حدث للتيارات الإسلامية في الجزائر. بيد أن تفادي هذا المسار يتوقف على سرعة إدراك جماعة الإخوان المسلمين لأخطائها، ونبذها للعنف، والتحاور مع الشارع السياسي. إذ إن استمرار خطاب الإخوان في دفع المشهد للعنف ينعكس سلباً على موقف الشارع المصري من كل جماعات الإسلام السياسي، حتى التي شاركت في تفاصيل وبنود المرحلة الانتقالية الجارية بعد 30 حزيران، خاصة حزب النور السلفي.

خيار الحرب الأهلية

بعد أن دعا حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسي للإخوان المسلمين، إلى (انتفاضة للشعب المصري العظيم ضد الذين يحاولون سرقة الثورة بالدبابات)، وبعد الاشتباكات التي حصلت أمام مقر الحرس الجمهوري والتي قتل فيها العشرات، وبعد التحذير الذي أطلقه الإمام الأكبر شيخ الأزهر منبهاً من بوادر حرب أهلية، يلوح سؤال في الأفق:

هل تتجه مصر صوب حرب دينية يشنها تنظيم الإخوان المسلمين وبعض الإسلاميين ضد السلطات وباقي فئات المجتمع المصري؟

عدة أسباب تدعو للاعتقاد أن الوضع الداخلي في مصر مرشح للانفجار، وذلك للأسباب التالية:

* زيادة نسبة التطرف في المجتمع المصري بسبب الفقر المدقع وانتشار الجهل في أوساط عديدة من المجتمع المصري، وظهور مناطق خارجة عن سيطرة الدولة (سيناء).

* توفر الأسلحة بشكل كبير ووقوع مصر بجوار ليبيا التي نشطت فيها تجارة الأسلحة نشاطاً كبيراً بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي.

* اشتباكات دينية بين الأقباط والمسلمين، إذ يشكل الأقباط نحو 10 بالمئة من المصريين، وهم في معظم الأحوال يعيشون في تناغم مع الأغلبية المسلمة. ولكن بعض الإسلاميين المتطرفين يريدون إبعادهم عن البلاد، كما حدث مع مسيحيي العراق. وقد وقعت هجمات منفصلة ولكنها دامية على التجمعات القبطية في العام الماضي الذي أمضاه مرسي في السلطة. وقد أعرب الكثير من الأقباط عن قلقهم إزاء عدم التزامه بحمايتهم. والآن بعد عزله، يتشكّكُ الإخوان في أن الأقباط كان لهم يد في عزله، وإذا سقطت مصر في العنف الجهادي، فسيكون الأقباط أهدافاً سهلة المنال*.

* إحباط سياسي: يوجد شبه إجماع عند الخبراء السياسيين أنه مهما كانت درجة افتقار مرسي إلى الكفاءة، فإن عزله يبعث برسالة خطرة إلى الإسلاميين. ويقول الخبراء: إن عزل مرسي يجعل الإسلاميين يخلصون إلى أن مسار العملية الديمقراطية** التي يروج لها الغرب موصد في وجههم، مما يدفع بعضهم إلى اختيار السلاح بدلاً من صندوق الاقتراع.

* اقتصاد متداع، وهو آخر الأسباب، ولكنه ليس أقلها أهمية، فمصر تواجه منذ انتفاضة 2011 مشاكل اقتصادية ومالية. فقد انخفضت السياحة وارتفعت معدلات البطالة والجريمة بدرجة كبيرة، وتلاشت الثقة، وتوشك الأموال التي تحوزها الحكومة على النفاد. وكانت عدم قدرة مرسي على حل هذه المشاكل سبباً رئيسياً في انعدام شعبيته لدى قطاعات واسعة من الشعب،ولكن المشكلة باقية لمن سيخلفه.

واجتماع الاقتصاد المنهار وانعدام فرص العمل والإحباط السياسي العميق قد تؤدي إلى إحساس خطير باليأس، مما يجعل البلاد أرضاً خصبة للساعين لتجنيد عناصر لأغراض إرهابية، وتسمح لأجهزة المخابرات العالمية بتجنيد عملاء لها لتنفيذ مخططاتها في مصر والمنطقة.

ولكن على ماذا يراهن الإخوان حين يعملون على دفع الأمور إلى حد الحرب الأهلية؟

يحاول الإخوان إظهار أن ما حدث في مصر من تغيير هو خروج على رغبة الشعب المصري. ومن هنا نفهم اعتصام ميدان رابعة وميدان نهضة مصر، ومحاولة اقتحام ميدان التحرير، ثم محاولة استبدال ماسبيرو به. الأمر الذي يهدف إلى تكرار التجربة اليمنية، أي أن هناك ميداناً مؤيداً للرئيس المعزول مقابل ميدان آخر معارض له، بما يعنى أن هناك انقساماً في الرأي العام حول الأمر، وهو ما يفتح الباب أمام مفاوضات تطرح خيارات أخرى قد يكون منها الاستفتاء على بقاء الرئيس من عدمه، أو تقاسم السلطة بينه وتياره وبين المعارضين. وهذا الأمر يسير بموازاة توتير الأوضاع الأمنية في سيناء، عن طريق خلايا جهادية زرعوها حتى يستخدموها عندما يحين الوقت، ومحاولة خلق فتنة طائفية في باقي ربوع مصر.

والإخوان، وهم يضعون هذه الرهانات، يتصورون أن التفاهمات الإقليمية المتعددة التي توافقوا عليها مع الإدارة الأمريكية ومع اللوبي الصهيوني، برعاية أردوغان، ستدفع الولايات المتحدة إلى أن تسعى لإعادة ممثلهم إلى السلطة مرة أخرى، أو على الأقل تعطيهم دوراً رئيسياً في المرحلة المقبلة من أجل وضع التفاهمات السابقة محل التنفيذ.

ولكن هذا الرهان لجماعة الإخوان المسلمين يؤكد البؤس المعرفي وضحالة الفكر السياسي للجماعة، وعدم إدراكها التحولات الإقليمية والدولية وطبيعة العلاقات المصرية الأمريكية التي تمثل العلاقة مع المؤسسة العسكرية حجر الزاوية فيها. كذلك فإن موقف أوربا الرافض للإخوان، لأنهم الحاضن الفكري الرئيس للتيارات الجهادية ذات الصلة بجماعات إرهابية مماثلة في أوربا، سيكون له دور رئيسي في موقف الولايات المتحدة. وهو ما يعني أن رهانهم خاسر في نهاية المطاف.

وهنا يأتي دور (الحل الكربلائي) للجماعة عن طريق استنفار أعضائهم وإدخالهم في معركة خاسرة مع الجيش، قد تؤدي إلى مجزرة، بهدف الحفاظ على تماسك الجماعة، وعدم إعطاء الفرصة للانشقاقات داخلها خاصة من بين الشباب. وقد يكون هذا الرهان هو الوحيد الذي سوف تنجح الجماعة في تحقيقه في هذه المحنة الحقيقية التي تواجهها حالياً.

الربيع العربي.. وحلم تأسيس الخلافة السادسة

نظر الإخوان المسلمون إلى (الربيع العربي) الذي صعد بهم إلى الواجهة على أنه الفرصة الذهبية للانطلاق نحو إعادة تأسيس الخلافة، وإذا ما تتبعنا عدداً من مواقف قيادات الجماعة وتصريحاتهم فسنلمح بوضوح بروز هذا الخطاب لدى شتى فروع الإخوان وأذرعهم في المنطقة. فقد رأى إسماعيل هنية، رئيس حكومة حماس، من على منبره في غزة، في وصول الإخوان إلى السلطة في مصر وتونس، بداية الخلافة الإسلامية. وأن اللقاء الذي جمع بين الرئيس المصري محمد مرسي ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، (سيفتح صفحات الخلافة). بل إنه ذهب في خطابه أثناء انعقاد المؤتمر الرابع لحزب العدالة والتنمية التركي إلى مبايعة أردوغان زعيماً على العالم الإسلامي (كخليفة منتظر). وقبل هنية، كان حمادي الجبالي في تونس، وتحديداً في 13 تشرين الثاني ،2011 في خطبة حماسية في مهرجان احتفالي لحركة النهضة في مدينة سوسة، يُبشّر الجميع ببداية الخلافة الراشدة السادسة.

أما الشيخ عبد المجيد الزنداني، أحد رموز الحركة الإسلامية في اليمن، فكان أكثر شاعرية وهو يقول للحشود المتظاهرة في صنعاء ضد نظام علي عبد الله صالح: إنه يرى صباح الخلافة الإسلامية يُطِلّ من كل مكان في العالم الإسلامي. وكرر هذا الكلام في حوار سابق مع صحيفة (الرأي) الكويتية، إذ قال: إن فوز محمد مرسي في مصر هو مبشر ببداية الخلافة الإسلامية.

لكن هذا الحلم تعرض للاهتزاز عندما تحرك الأتراك باتجاه ساحة (تقسيم)، ونزل المصريون إلى ساحة (التحرير) لمواجهة سلطة ذات خلفية إسلامية تؤمن بمنهج الخلافة، سعت للتفرّد والاستئثار بالمؤسسات والسيطرة على كل شيء حتى تتمكن من تحقيق هدفها.

وبمعزل عما سيتخذه مسار تطور الأحداث في مصر، فإن حكم (الإخوان) قد انتهى بمعناه الفعلي، إذ لن يتمكنوا من الاستمرار في مشروعهم الذي خططوا له منذ ما يقارب التسعين عامً، فكيف إذا ما تمت إطاحتهم نهائياً عن الحكم؟

الأمر ذاته ينطبق على تركيا، إذ وجّهت (انتفاضة تقسيم) ضربة قوية ومؤثرة لـ (حزب العدالة والتنمية) وزعيمه أردوغان. ولم تنته هزاتها الارتدادية حتى الآن، ولا يتوقع أن تنتهي آثارها داخلياً أو خارجياً.

وهكذا وجد إخوان تركيا أنفسهم أمام بداية مرحلة انحدار بعد 10 سنوات من الصعود، فيما لم يستكمل إخوان مصر عامهم الأول حتى شهدوا مظاهرات تطالب بإزاحتهم من مراكز صنع القرار في مصر.

وفي الحالتين شكّل شهر حزيران 2013 بداية غروب (الهلال الإخواني) الذي حاول تمهيد الطريق لإعلان الخلافة السادسة. هذا الهلال الذي رأى الملك الأردني عبد الله الثاني أن أحد طرفيه في إسطنبول، فيما طرفه الآخر في القاهرة.

لقد هزّت (انتفاضة تقسيم) الطرف العثماني من هذا الهلال، بينما هزت (ثورة 30 حزيران) طرفه المصري. الأمر الذي سيحتم على تيارات الإسلام السياسي إعادة النظر في مبادئهم ومنطلقاتهم الفكرية. فالواقع يبدو معقداً أكثر مما اعتقدوا، بسبب سطحية رؤيتهم للمراحل السابقة، وقراءتهم الوردية لتاريخ المنطقة، وتعميم فهم الأبيض والأسود في مقاربتهم للأحداث، وانعدام آلية البحث عن حلول عملية للمشاكل التي تعترض المجتمع، والهروب إلى قراءات غيبية توهم الناس بغد أفضل وأجمل سيأتي على يد الخليفة العادل المنتظر. وقد تزداد شعاراتهم غوصاً في الوهم والتركيز على مفهوم المؤامرة، خصوصاً بعد تحرك الجيش المصري ضدهم ملبياً نداء الشارع المحتقن في القاهرة وباقي المدن المصرية، وبالتالي قد نبدأ بتصدير حلقة جديدة من الوهم تُكمل حلقات تبرير الفشل وتُحَمِّل (الكفار وأتباع ابن سبأ) سبب الهزائم التي يتعرضون لها.

الهوامش

* ذهب بعض المتطرفين إلى اتهام المسيحيين بالتآمر لتغيير الحكومة. يقول إسحاق إبراهيم، من جمعية المبادرة المصرية للحريات الشخصية: (الكثير من الإسلاميين ظنوا أن المسيحيين لعبوا دورًا كبيرًا في الاحتجاجات وتدخل الجيش للإطاحة بمرسي، لذلك يعمدون إلى الانتقام منهم).

في بعض الأماكن، حُذر المسيحيون من المشاركة في الاحتجاجات المناهضة لمرسي. وأشارت التقارير إلى توزيع مناشير في محافظة المنية بصعيد مصر، تحمل تهديدات وثّقتها منظمة مراقبة حقوق الإنسان، وتقول: (ليتر واحد من الغاز يمكن أن يشعل ذهبكم، خشبكم، سياراتكم، محلاتكم وربما بيوتكم وكنائسكم ومدارسكم). وحملت هذه المناشير توقيع (الناس الذين يهتمون لهذا البلد).

بعد الإطاحة بمرسي، قامت عناصر إسلامية غوغائية في قرية دجالي بنهب إحدى الكنائس، وأحرقوا مبنى آخر تابعاً للكنيسة، كما حاصروا منازل المسيحيين وحطموا نوافذها بالحجارة والهراوات.

وفي قرية النجا حسن بالقرب من الأقصر، هاجم إسلاميون منازل المسيحيين وأضرموا النار فيها. وقال إبراهيم إن قوات الأمن وصلت لإخلاء النساء، لكنها تركت الرجال، من بينهم أربعة أشخاص تعرضوا للطعن والضرب حتى الموت. (المصدر: إيلاف – السبت 13 تموز 2013).

** قد تشكّل الانتخابات في الدول البوليسية خطوة في الاتجاه الصحيح، أو من الممكن استغلالها كوسيلة لتعميق سلطة نخبة حاكمة تسعى إلى تأسيس نظام حكم مستبد.

العدد 1104 - 24/4/2024