من الصحافة العربية العدد 593

«كولن باول» … السوري

استغرق الأمر عاماً واحداً فقط ليحاول كولن باول، وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، التراجع عن صورته – الفضيحة في الخامس من شباط العام 2003.

وقتئذ، جلس باول يلقي واحدة من أكثر الخطابات شهرة أمام مجلس الأمن الدولي، رافعاً أمام العالم ووزراء الخارجية الآخرين: الأنبوب الشهير الذي يفترض أنه كان يحتوي مواد بيولوجية، ألصقت تهمتها بالعراقيين.

بأكثر من تسعة آلاف كلمة، راح العالم يشاهد رئيس دبلوماسية الدولة الأقوى في العالم، على الهواء مباشرة، يطرح (الدليل) تلو (الدليل)، على تورط العراقيين بعشرات الاتهامات: أسلحة كيميائية وبيولوجية ونووية، وانتهاكات لقرارات الأمم المتحدة، وتلاعب وتضليل فرق التفتيش الدولية على أسلحة الدمار الشامل، ومصانع تسلح متحركة.. وإرهاب.

عرض باول وقتئذ الأنبوب الشهير وصور أقمار اصطناعية وتسجيلات صوتية ووثائق يفترض أنها كلها تشكل إدانة لبغداد، متخذاً بذلك الخطوة الدبلوماسية الشكلية الأخيرة قبل إطلاق شرارة الحرب.

بعد عام واحد فقط، في أيار من العام ،2004 كان الرجل يفضح نفسه بنفسه. ظهر أمام الإعلام وأعلن  بجرأة وقحة  أنه (نادم)، بعدما تبين بحسب قوله أن (المعلومات كانت غير دقيقة وخاطئة وفي بعض الحالات مضللة عن قصد)، ما شكّل أول اعتراف رسمي بأن الحكومة الأمريكية استخدمت (أدلة) مضللة وكاذبة.

وفي أيلول من العام ،2005 ذهب باول، الذي كان يوصف قبل توليه منصب وزير الخارجية عندما كان يتولى منصبه رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، بأنه أحد ألمع القيادات الأمريكية على الصعيدين السياسي والعسكري، أبعد من الاعتراف المبدئي الأول. قال في مقابلة تلفزيونية إن خطابه أمام مجلس الأمن في شباط ،2003 قبل الحرب على العراق بأسابيع قليلة، هو (وصمة في سجله.. ومؤلم). وقال إنه دافع عن قرار الذهاب إلى الحرب (مكرهاً)!

غالب الظن أن باول كان يستذكر بعض ما قاله في خطابه المهزلة، وهو كثير، لكن من بينه على سبيل المثال التمادي في كذبة الإرهاب، إلى حد تأكيد الترابط بين النظام العراقي وبين زعيم تنظيم القاعدة في العراق أبو مصعب الزرقاوي! وان ما يمتلكه العراق من مواد كيميائية تتراوح بين 100 و500 طن، يمكن أن تعبئ نحو 16 ألف رأس حربية كيميائية!

كانت دبلوماسية الحرب الأمريكية تبني (قضية) ضد العراق، ولعلها نجحت وقتئذ برغم اتضاح حجم التضليل الذي مورس على الرأي العام العالمي. ابتلع كثيرون الطعم.. في العالم العربي انخرطت دول وحكومات ووسائل إعلام كقطيع في مسيرة الخداع الأمريكية.. طبّل هؤلاء للحرب وكأنها خلاصهم الإلهي، وابتهج الليبراليون واليساريون والمتنورون العرب، كأنها لحظة معركتهم الفاصلة مع الرجعية. أما ال(سعد حداديون) منهم، فقد جرفتهم الحماسة لعمالتهم… وشكروا الرب على هذه النعمة.

ووسط بلاهة كل هؤلاء، كان الخراب الشامل قد حلّ بالعراق. (ندم) كولن باول، ومذكراته التي كتبها لم تبدل شيئاً في مصير المليون عراقي الذين قتلوا. باول بالمناسبة، لم يكن الأول. فقد سبقته وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت في تشرين الثاني ،2005 عندما حاولت التراجع عن كلام دنيء قالته عند توليها منصبها (بين عامَيْ 1996 و2000)، حينما قالت: إن حصار العراق كان أمراً مستحقاً، حتى لو عانى أطفال العراق من المرض والجوع. اكتفت وقتئذ في إطار التوضيح بدل الاعتذار، بالإقرار إنها قالت (كلاماً سخيفاً)!

غداً، ولو سوّق الأمريكيون لفكرة (الضربة المحدودة) ضد سورية، لن يكون جون كيري أفضل سمعة من كولن باول ولا مادلين أولبرايت.. الدبلوماسية الأمريكية ستتوارث السقطة ذاتها.. الإمبراطورية عاهرة تتلون بعناوين مختلفة.

خليل حرب

(السفير)، 28/8/2013

 

في سورية.. الولايات المتحدة هي الخاسرة

إثر الأنباء عن هجوم عسكري كيماوي على ضاحية دمشقية راح ضحيته مئات القتلى، تقضي الظروف ألا تنزلق إدارة أوباما إلى التدخل في الحرب الأهلية السورية. فالأمور تجري في هذا البلد على خلاف المصالح الأمريكية مهما كانت هوية الغالب في هذه الحرب. ولا يقوض بقاء الأمور على حالها، أي بلوغ النزاع طريقاً مسدوداً، المصالح الأمريكية. ووقعُ فوز نظام بشار الأسد في الحرب هذه، إذا أفلح في قمع المعارضة واستعادة السيطرة على كامل أراضي سورية، هو وقع الكارثة. فمثل هذا الفوز يكرس نفوذ إيران – وهي تمد نظام دمشق بالمال والسلاح ومقاتلي (حزب الله) – ويهدد تهديداً مباشراً الدول العربية وإسرائيل. ولكن غلبة المعارضة هي احتمال بالغ الخطورة على الولايات المتحدة وعدد كبير من حلفائها في أوربا والشرق الأوسط. فالمجموعات المتطرفة، وبعضها موالٍ ل(القاعدة)، صارت أقوى القوى المقاتلة في سورية. وإذا فازت، أنشأت حكومة معادية للولايات المتحدة، ودشنت مرحلة جديدة من إرهاب (القاعدة). وإسرائيل لن تنعم بالهدوء على حدودها الشمالية إذا رجحت كفة (الجهاديين). والأمور لم تكن على هذه الحال القاتمة قبل عامين حين كسر المجتمع السوري قيود الخوف للمطالبة بإنهاء ديكتاتورية الأسد. ويومذاك كان ثمة أمل في بلوغ المعتدلين السلطة. وكان توقع انتهاء النزاع في وقت سريع في محله. وبدا يومئذ أن الجارة التركية، ومساحتها أكبر من مساحة سورية، وجيشها أقوى من نظيره السوري، ستبسط قوتها لإنهاء النزاع. ولحظة اندلاعه، طالب أردوغان بطيه. لكن ممثلي الأسد هزئوا به، وأسقطت قوات النظام مقاتلة تركية، وأطلقت قذائف على الأراضي التركية، وأرسلت إليها سيارة متفجرة. وفوجئ كثر بعدم رد تركيا على هذه الاعتداءات. ووراء إحجامها عن الرد غياب الثقة بين الأقليات وحكومتهم – وهذه أيضاً لا تثق بجيشها. فأصيبت القوة التركية بشلل بدل أن تبسط جناحيها، ولم يسع أردوغان غير الوقوف موقف المتفرج إزاء انزلاق سورية إلى براثن العنف والفوضى. واليوم، تجمع الأطراف الضالعة في الحرب أمراء حرب تافهين إلى متطرفين يحتذون حذو (طالبان)، ولا يتوانون عن قتل مؤمنين لا يسيرون على خطاهم. وتهافت (جهاديون) من أصقاع العالم كله إلى سورية وأعلنوا سعيهم إلى تحويلها ملاذاً آمناً لهم وقاعدة عملياتهم ضد أوربا والولايات المتحدة. واستمرار الأمور على هذا المنوال يصب في مصلحة الولايات المتحدة. فأيدي جيش الأسد وحلفائه الإيرانيين وحزب الله مقيدة في حرب ضد (القاعدة). خلاصة القول: إن أعداء واشنطن يتقاتلون في سورية، ويحول ذلك دون شن هجمات على الأمريكيين وحلفائهم. والخيار الأمريكي الأمثل هو تراجيدي، ويصدع بنزول الكارثة الوحشية على السوريين. والسبيل الأمثل إلى بقاء الأمور على حالها هو تسليح الولايات المتحدة ثوار سورية – إذ لاحت هزيمتهم في الأفق – والتوقف عن مدهم بالسلاح إذا سارت الأمور على ما يشتهون. وأوجه الشبه كبيرة بين الاستراتيجية هذه وسياسة أوباما إلى اليوم.

إدوارد ن. لوتفاك

كبير الباحثين في مركز الدراسات الاستراتيجية

والدولية الأمريكي، عن (نيويورك تايمز) الأمريكية،

 25/8/،2013 إعداد منال نحاس

(الحياة)، 28/8/2013

العدد 1105 - 01/5/2024