غربة الروح

في خضمِّ ظروفِ سورية المتواليةِ المصاعب والخطورات، قرر بعض السوريين مغادرة البلاد على أمل حماية النفس والجسد، وللابتعاد بأولادهم خارج مشاهد الكراهية والدم والقسوة. فقرر عمرو الهجرة بعيداً، فقدْ فقدَ أعماله الكثيرة، وتعرض للضرب والإهانة، وصار تائهاً بين ياسمينه الشامي المتأصل وأولاده، أولاد الياسمين، خائفاً على حياتهم، قلقاً على مستقبلهم، فقرر حماية ياسميناته ليكونوا اليد التي ستزرع يوماً ياسمين بلاده عند العودة.

أما سها فستجرّبُ الحياة بطريقة أخرى، أحبت شابّاً خارج البلاد، وسافرت إليه، تاركةً أمل العودة نُصبَ عينيها، أمل اللقاء بأهلها وأصدقائها، تاركةً قلبها يتمزّقُ بين حبها في الخارج وأنفاسها في الداخل؛ خائفةٌ هي من طول البعاد، مضطربةٌ من هول فراق شامها، ودمع الرحيل يمزق جفنيها خائفاً من توهه في غربةٍ لا عودةَ منها.

وكذلك شادي الذي قرر الذهاب للدراسة خارجاً، متفائلاً بمستقبله الرّغيد القادم، فيفاجأُ بصعوبة زيارة بلده، فإن قرر الزيارة فسيطلب للخدمة العسكرية، وستهدد دراسته وعمله في الخارج، وهما حلمه وحلم عائلته. ها هو ذا يتمزق شوقاً وحنيناً، تاركاً بدموعه حلمه بالعودة إلى الوطن، لهذا الجبل وذاك الوادي، يحلم دوماً بتصوير نفسه مع شجرة أحبها وأرض حرثها.. لكنه الزمن وما يجري في البلاد يمنعانه بقسوة.

وحال مها ليس أفضل بكثير، فبعد طول حلمها بالسفر للعيش خارجاً، فوجئت بغربة روحها. تريد الآن العودة ولو تحت الضرب والقنابل والرصاص والسموم. تريد العودة ولو للحظة فتستعيد أحلامها وضحكاتها مع أصدقائها، لتستعيد ضجة الشوارع وعبث المحلات، ولو لاستنشاق التلوث، ولو لتعب الأصوات، تريد العودة، لكن الحلم ما هو إلا حلم.

والكثير الكثير من الأسماء التي لا تعد ولا تحصى، أنفاسهم تمزق سماء الوطن حنيناً، منهم من لا حول له ولا قوة ولكن الكثيرين منهم أيضاً أتى، رغم أن الخطورة أكبر من قدرة التحمل. فلم يحتمل طوني قدرة البعاد عن حبيبته أكثر، فتخطى عشقه المسافات مع جسده، متجاوزاً كل حواجز الخوف، واصلاً إلى يد حبيبته المنتظرة، خاطباً قلبها، مخاطباً عشقهما.

ووردة التي جازفت مع أولادها صقيع غربة نفسها بنار حب الوطن والأهل، تركت الخوف وراءها، وأتت من ذلك المكان البعيد لتستنشق تراب جبلها، وعطر والديها، وحضن بيتها القديم.

وما أكثر العائلات التي أتت من مصر والأردن ولبنان ومن أوربا والغرب، ما أكثرهم زائرين أو عائدين متلهفين لملامسة أرض الوطن، لم يستطيعوا العيش خارجاً، لا العادات عاداتهم، ولا الناس يشبهونهم، ولا الهواء هواؤهم..

 قال معظمهم إنهم عادوا ليموتوا هنا، وليس لهم القدرة على العيش خارجاً مجدداً. فقد وجدوا هناك كره بعض الناس للسوريين وامتعاضهم من وجودهم داخل أراضيهم، رأوا اختلاف طرق العيش وزيادة الأسعار التي تفوق كل الغلاء الذي تعانيه سورية اليوم. لم يجدوا للوطن بديلاً، لم يجدوا رغم هذه الظروف الكئيبة أملاً خارجَ بلادهم، لم يجدوا رغم ظلام الشمس في بلادنا نوراً يسطع أكثر لهم في الخارج.

هو سرُّ الياسمين، عبقُ الشام المزروع داخل شرايين السوريين شاؤوا أم أبوا، هو سرُّ البيوت العتيقة، والشوارع القديمة، تَعانُق البيوت من تعانق السوريين بسوريتهم، وامتزاج التراث بالحضارة كامتزاج روح أهل الشام بتراب أرضهم، فلا جسد يعيش بلا روح، ولا رؤية لروح بغير الجسد.

أغلبهم عاد، وسورية بانتظار باقي أولادها، فالحبل السري لدى سورية هو سريٌّ جداً، فهو لم يُقطع، ولم يجتث عند الولادة، فمهما قررنا البعاد فسنعود لذاك الرّحم المعطاء المكوِّن لنا منذ بداية الخلق، منذ أزل العصور.

 يا شام المجد والأمل، شام العزة والكرامة لا تقلقي فأولادك عائدون إلى حضنك الحنون قريباً جداً. لا تقلقي، عليهم فهم على قدر المسؤوليّة، سيستطيعون مجابهة الصعاب وخلق الحياة داخلهم، لن يتركوا الظلم والحزن والقهر والحقد في عيونهم وقلوبهم، سيغفرون لبعضهم ولكنهم لن ينسوا، لن ينسوا ما فعلوا ببعضهم ولا ما فعلوا بك، وسيجعلون من هذه الحقبة مشهداً مقتطعاً من زمن الظلام موضوعاً ومندسّاً في زمن المحبة وأرض الشام. ليُجَرِّبَ أولادك، ليثبتوا للخليقة أنه مهما ابتعد الأولاد أو تقاتلوا فسيكون هناك لهم مرجع واحد وعودة واحدة تذكّرهم بأن طيشهم هذا كان قاسياً، وسيكون درساً للحب ومعرفة روح السلام ليس غير.

(أنت لي، آه عانقيني أنت لي) أغنية تنبض في دم كل سوريٍّ أصيل…

لا تخافي علينا يا سوريتنا، فمن ينبثق منه يوسف العظمة وحنا مينه، وصباح فخري، ونزار قباني، وأسماء لا حصر لها، لن يخاف، فالحضارة متجددة والعزّة متأصّلة. لا تقلقي فبذورك نبتت من أرضٍ صالحةٍ، فوق ترابٍ خصبٍ سيزهر أملاً وحضارةً ومستقبلاً وياسميناً، منتشرة أغصانه بين كل الشعوب. فأنت هي الأصل.

شآم ما المجد؟.. أنت المجد لم يغب…

العدد 1105 - 01/5/2024