ماذا يفعل شبابُنَا على شواطئ إيطاليا؟

أكثر من مرة في الفترات الماضية  مُرِّرَ على الشريط الإخباري لعدة فضائيات خبر مؤلم وحارق، مفاده أن خفر السواحل الإيطالية أنقذوا عشرات الأشخاص المهاجرين غير الشرعيين غرقت قواربهم قبالة السواحل الإيطالية، وممن أنقذوا عشرات من المهاجرين السوريين، انتهى الخبر.

منذ بضعة أيام اتصلت بأحد أصدقائي للاطمئنان على صحته وعلى سلامة عائلته، فأجابني بنبرة حزينة وصوت خافت. فسألته عن سبب هذا الحزن في صوته الذي بدا مؤثراً جداً، إذ تلوح فيه رائحة الفقد. شرح لي السبب قائلاً: ابني البكر رحل تاركاً وراءه زوجته وأولاده، رحل دون سابق إنذار، رحل فجأة إلى مصر، ومنها انتقل عبر البحر إلى إيطاليا. وهو سيطلب اللجوء إلى أي بلد أوربي يقبل به، ثم سيستدعي عائلته  بعد أن يتقدم بطلب لمّ الشمل !

صديقي الرجل الكهل اضطر إلى مضاعفة العمل ليتمكن من إعالة أكثر من عائلة، رغم أن وضعه كان قبل الأحداث ميسوراً. إلا أنه اليوم وبعد عامين ونصف على هذا الاضطراب المتعدد الوجوه أصبح في عداد معظم السوريين، لن أقول المعوزين لأن درجات العوز في مجتمعنا أصبحت كثيرة.

لكن يمكننا أن نستنتج ببساطة سبب هجرة هذا الشاب وهو زوجٌ و ربُ عائلةٍ كبيرة، مخلفاً  وراءه كُلَ شخصٍ أحبه، مُعرضاً حياته للخطر، كالكثير من الشبان السوريين اليوم ، لخطر الموت غرقاً في البحر أو على يد قطاع الطرق وما أكثرهم اليوم. أو ربما على يد حرس حدود بلدٍ ما. في حال واقعنا اليوم هو مجرد رجل عابر لا اسم له، لا تاريخ له، اسمه الوحيد المتعارف عليه عالمياً، وهو أيضاً صفته  (الإنسانية) ،مهاجرٌ غير شرعي.

 قبل ثلاثة أعوام تقريباً وقبل أن يحدث ما حدث في بلادنا، كتبت مقالة لمجلة (الآخر) عن الشباب ومشكلاتهم، وكانت إحداها مشكلة الهجرة. وتحدثت فيها عن الشبان الذين يهاجرون من الدول العربية والإفريقية إلى أوربا، هرباً من جور مجتمعاتهم ودولهم، و من شبح البطالة الرهيب عبرَ منافذٍ بحريةٍ معينة.  وقد يبقى هؤلاء المهاجرون فترات طويلة في مدن ساحلية غريبة عنهم وهم غرباء عنها. قد يقضون من الجوع في جرود هذه المدن قبل أن يتسنى لهم العبور إلى الضفة الأخرى للمتوسط عبر وسطاء غير نزيهين غالباً، وقوارب نقلٍ متهالكة قد يعمد أصحابها لإغراقها عمداً.

 قصصٌ كثيرةٌ تحدثُ في البحر أغرب من أن نصدقها، لكن واقع الحال يقول إن هناك العشرات من الشبان الذين يموتون غرقاً في البحر قبل وصولهم إلى الضفة المنشودة، التي غالباً ما تكون بعيدة عن الخلاص الذي ينشدونه، خاصة عندما يُحتَجزُ هؤلاء  المهاجرون لفترات طويلة في سجون خاصة، ليعاد إرسالهم إلى بلادهم، كما يحدث في إيطاليا وغيرها. لكن  كما يقال بالمثل الشعبي: ما الذي يرميك على المر إلا الأمرُّ منه؟ فإذاكان سبب الهجرة في السنوات الماضية هو الفقر والبطالة والبحث عن بلاد أكثر حرية لقول ما لا يقال في بلادنا، فاليوم السبب الأكثر إلحاحاً للهجرة هو الهروب من أتون الحرب، والعنف المسلط على رقاب المواطنين، وتحديداً الشباب من جميع أطراف الصراع من الغرباء ومن أولاد البلد، من الدول ومن الأفراد.

 العنف هو أحد المفردات المتعددة الدلالات والمستويات، لكنه بالتأكيد  العنوان الوحيد المناسب لمرحلة خطيرة في تاريخ بلادنا، ومع العقوبات المفروضة على بلادنا على الحكومة والشعب في مختلف النواحي، حتى الاقتصادية والثقافية منها، ومع تلاشي فرص العمل لأجيال من الشباب رجالاً ونساءً، يمكننا أن نتوقع ما سيحدث أيضاً في المستقبل. وإذا كان الشباب الذكور يجدون ما يعتقدون أنه خلاصهم في الهجرة الشرعية وغير الشرعية من البلاد، فكيف ستتصرف أعداد كبيرة من النساء الشابات؟ لانزال في المرحلة الساخنة من الجرح،  لكن عندما يبرد جرح بلادنا ونبدأ بتلمس الندوب الكبيرة التي فتحت في جسد هذه البلاد، فسنرى حجم المشكلات على حقيقته، وعندما يتوقف القتال، فسنلتفت إلى الوراء ونرى ماذا حلَّ بنا.

    هل يصل ابن صديقنا الكهل إلى إيطاليا سالماً؟ وهل سيتمكن من النفاذ إلى أي بلدٍ أوربي؟ بعد أن ترك وطنه يائساً، مخلفاً وراءه أباً كهلا وعائلةً بائسة تدعو له بالسلامة رغم مرارة الفراق.

العدد 1107 - 22/5/2024