تجارب حياتية… وقفة مع القلب

بينما أنا جالس أتأمل غروب شمس الساعات الأخيرة من أعوامي التسعة عشر، إذ بالذاكرة تقلب صفحات الأيام، وتسافر في نزهة إلى بستان الزمان، تستحضر منه أزاهير تستقبل بها الوافد الجديد، وتخبره بهديتها أن القدر الذي حبانا هذه الروعة في الذكريات، لا يعجزه أن يعيد هبتها مرة أخرى.

عادت تحمل في باقتها نسرينة قطفتها من عاميَ السابع عشر، يومذاك كنت في الثالث الثانوي، وقد جمعني بها أول لقاء حين انتسبت إلى دورة في مادة الفلسفة، ثم تكرر حين انتسابي إلى أخرى في اللغة الفرنسية.

ما كنت أحسب أني سأتفوه إليها يوماً بكلمة واحدة، بَلْ أن أعطيها مساحة في قلبي.

فنحن أبناء بيئة لا تقبل الحديث بين الشاب والفتاة، وأنا مغايرٌ لأقراني في رغبتي بهذا الحديث، كما أنها مخالفة لأترابها في الالتزام بما هو مألوف من تعاليم المحيط الاجتماعي ومبادئه.

فبينما كانت زميلاتها يلتزمن الصمت انتظاراً لقدوم المدرِّس كان صوتها يشقُّ هذا الحجاب، وحديثها يتعدَّى إلى كل من في القاعة من ذكر وأنثى. وعندما كنا نمضي وقت الانتظار تحضيراً أو تهامساً كانت قَهْقَهَتُها تنثر صداها في أرجاء المكان.

رغم أن تصرفاتها مثيرة للاستغراب، إلا أنَّ أحداً منَّا لم يجرؤ على السؤال عن أسبابها.

ومن سنسأل؟ هل سنسألها هي ، أم زميلاتها؟

كلا الأمرين محظور. لذلك لم نجد بداً من تقبل الأمر كما هو.

كانت تستطيع الحديث إلى أي شخص تريده إلا أنا!، فقد كنت معروفاً بالطالب الجاد الذي لا يأبه إلا لدراسته وكتابه، الأمر الذي شكَّل لها تحدِّياً عظيماً كان عنوانه: ومن هو حتى لا أستطيع محادثته؟!

ثم أمسكت بمفتاح الدراسة ودخلت إليَّ عبر بوابتها قائلة: أنت أكثرنا تفوقاً، ومن شيم المتفوق أن يساعد من هو دونه في المستوى لا أن يتكبر عليه! وجئتك أطلب مساعدتك، فهل يليق بك أن تردني خائبة؟

بالطبع كانت كلماتها كافية لإبداء استعدادي لما تطلب، وبالفعل قام بيننا مشروع تعاون مشترك في هذا المجال.

كانت تجمعنا لقاءات على هامش الدروس نتبادل فيها مواد علميَّة أحياناً،وأحاديث شخصية أحياناً أخرى، وغالباً ما نجمع بين الأمرين. وهكذا حتى تولَّدَت نواة العاطفة في القلب، وأخذت تنمو باضطراد مع تجدد اللقاء.

لم أعلمْ لماذا كانت العيون ترنو إلينا بنظرات ملؤها الذهول، حتى شاءت الأقدار أنْ تكشف أنَّ الفتاة التي تحسبها بنتاً في السابعة عشرة من عمرها، إنما هي أم لولدين، حال طلاقها دون رؤيتهم والعيش معهم، وهي بنت سبع وعشرين!

كم تمنيت أن يوقظني أحد ليقول لي: أنت في حلم!، ولكنه الواقع المرُّ. ليتني أستطيع العودة إلى أيام التَّكبُّر! ولكن أنَّى ذلك وقد غرق الفؤاد؟

رحلت عن عالمي إلى عالم يترنَّح بين الحقيقة والخيال، عالم يرتاده التائهون والحيارى. كم كان شبيهاً بعالم الأحلام! إلا أن قوانينه تمنع النوم أو الابتسام!

في ذاك العالم عدتُ إلى نفسي لائماً بازدراء: كيف كنت لقمة سائغة وصيداً سهلاً أوقَعَتْه شباكها؟

توالت الشهور وأنا أُكابدُ ما يعانيه المدمن من آلام دونها العلاج ، وعند تماثلي للشفاء التفتُّ إلى الفترة الماضية أُسائِلها: هل ما منحت تلك الفتاة من مشاعر كان بالنسبة لديها رماداً تذروه الرياح؟

وجاءتني الليالي بإشعار منها أن جهودكَ لم تضع هباء منثوراً. ولكن هيهات، فاتك الأوان يا سيدتي.

وفي ليلة ظلماء أُفرغت في جسدها رصاصات غدر من غرباء، ودفنت في مكان لا يعرفه أحد.

والآن وبعد مضي عامين على رحيلها، أقول لطيفها الذي زارني وأنا أستقبل عاميَ العشرين:

صحيح أنكِ يا نسرين ما زلت تنبضين بالحياة، لكن هذه الحياة علمتني أنها لا تقف عند الأشخاص مهما أحببناهم!

العدد 1105 - 01/5/2024