المرأة.. صانعة مستقبل الوجود الإنساني

بعد انعقاد إجماع الأيديولوجيات المتباينة على حق المرأة في العمل، ومساهمتها في تشييد قواعد النهضة الاجتماعية والتربوية والثقافية والعليمة والاقتصادية والتنموية، لبناء صرح الحضارة في المجتمع الذي تحيا فيه والوصول به إلى مصافّ التقدم والارتقاء، عاد الخلاف يشق ما أجمع عليه !. لكن عمله هذه المرة لم يتطرق للأصل، وإنما اتجه إلى الفروع.

فهو لا يعترض على أصل العمل، وإنما على الميدان الذي ستعمل فيه المرأة، من حيث مناسبته لطبيعتها الفسيولوجية والنفسية، وبالتالي ضمان فاعليتها في عملية البناء، في زمن أضحى فيه النجاح بأنواعه أجمع مرهوناً بإدارة الأوّليات أو ترتيبها.

وهذه الخلافات تتسع لتشمل كل ميدان، وتضيق لتنحصر في تيارات لا تتجاوز الثلاثة.

فأصحاب المادة والإنتاج يرون أنه يحق للمرأة، لا بل يجب عليها، أن تعمل في كل نطاق، لا فرق في ذلك بين مجال ومجال، مادامت قادرة على العطاء ومادامت جهودها تُستَثمَر في بناء الأمة التي تنتمي إليها، فأبواب العمل جميعها مفتوحة وليس فيها ما هو مغلق أو موصد.

لكن أرباب النزعة الإنسانية حجَّموا تلك الخيارات، وعلَّلوا ذلك بأن من الأعمال ما لا يليق بمكانتها – كعاملة التنظيفات – ومنها ما يعد شاقَّاً ومجهداً على نحو يُضَارُّ بصحتها وأنوثتها – كأعمال البناء والبيتون والمناجم – وتنعكس آثاره بسوء على الدورة الطمثية والإخصاب وإنتاج الاسترجينات التي تتحكم في الإنجاب، كما أشارت إلى ذلك الدكتورة روز فريش، أستاذة الصحة العامة بجامعة هارفارد في دراستها التي نشرتها جريدة الهيرالدتريبيون الدولية في 16 شباط عام 1988.

أما الاتجاه الثالث فقد ألمح إلى فلسفته نابليون بونابرت بقوله: (المرأة التي تهز السرير بيمينها، تهز العالم بيسارها)، وبدهي أن هذه المرأة هي الأم.

وتابع نابليون على هذا الرأي – وربما سبقه إليه – جماهير من علماء النفس والتربية والاجتماع.

فبما أن المجتمع يستمد قوته من الأفراد، وأنه من المحال وجود مجتمع أقوى من مجموع أفراده. إذن فالفرد هو عماد الريادة الاجتماعية، وعليه فلا بد من بذل الجهود وتوجيه الطاقات لتنشئته سليم الجسم والنفس.

وبما أن علوم الطب والصحة قد فرغت من إثبات فضل حليب الأم على سائر الأنواع الأخرى من طبيعية وصناعية، كما فرغ شقيقهم علم النفس من إثبات أن الطفل الذي يُحرَم من رعاية أمه في مراحل نموه الأولى مُعرَّض لاضطرابات سيكولوجية قد تلقي به مستقبلاً في صفوف المجرمين أو المنحرفين الشواذ.

فضلاً عن أن غريزة الأمومة دافع متأصل في كيان المرأة، واستدلوا على ذلك مثلاً بميل الفتيات إلى اقتناء الدُّمى والعمل على رعايتها وإحاطتها بالعناية، حتى لكأنها تعتني بطفل حقيقي.

هذه الحقائق وضعت أصحابها أمام النتيجة الصادمة: إن من يمتلك هذه المؤهلات السيكولوجية والبيولوجية والفطرية هو أقدر شخص على تنشئة الفرد السَّوي، وهذا لا بد أن يشغل حيزاً كبيراً ويعتلي مكاناً مرموقاً في الحقل التربوي يتصدره عرش الأمومة ويطوي في ثناياه المربِّية والمعلمة، ثم ما ينداح بعد ذلك من أعمال تحقق الذات ولا تلغي الأوّليات.

وإلى هذه الفلسفة مال مفكرو العرب ومصلحوهم، وراحوا يبحثون عن توصيف وظيفي لتلك التي ستتولى إعداد النشء الباني والحامي، ثم استقر رأيهم على شعار (الأم مدرسة).

إن كلمة مدرسة ألزمتها – إلى جانب أهليتها الفطرية – أن تكون موسوعة معارف وأخلاق. لأنها إن نشأت في أُميَّة رضع الرجال جهالة وخمولاً، وإن عريت من الأخلاق هلكت المجتمعات انطلاقاً من قاعدة (وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت) على حد ما عبَّر شوقي.

وهكذا تواجهنا مشكلة لا بد من الإشارة إليها والتعرض لذكرها: وهي أنه من المألوف في مجتمع نابليون أن ترى أمَّاً بلا زواج، ولكن هذا الأمر لا ينسحب على مجتمعنا. وعدم انسحابه يضع المرأة أمام مسؤوليات جديدة، فهي عندما تكون أماً تكون زوجة، ومن كلا الوصفين لها حقوق وعليها واجبات، وهذا يحدد نوعية العمل الذي ستؤديه خارج البيت وطبيعته ومدته. وهنا ستنحصر خياراتها – طبقاً لأولياتها – في اثنين: إما أن تتنازل عن الزوجيَّة والأمومة لصالح ريادة، وإما أن تجمع بين الثلاثة. إن قدَّمت الأخير على الأوَّلين هلك المجتمع في فوضى وصراع يصنعه أولاد الأسر المفككة وأرباب الإجرام والانحراف، وإن قدَّمت الأوَّلين على الأخير خسرت الأخير. وإن عملت في الثلاثة معاً أضحت كمن يسير في طرق ثلاثة في الوقت نفسه، أو كمن يطارد عصافير ثلاثة يعسر عليه الإمساك بواحد منها. وهو أمر لا تستطيعه كل النساء إن قدر عليه بعضهن، لا سيما مع عظمة المهام الثلاث المنوطة بهن.

وللخروج من هذه المتاهة لا بدّ من العودة إلى أهمية الدعم للمرأة العاملة، بتقديم الخدمات المساندة لها في عملها إن كان في داخل المنزل أم خارجه، وإعادة تأهيل المجتمع حتى يدرك أهمية المشاركة بين المرأة والرجل في جميع مناحي الحياة، ومنها العمل معاً في البيت وخارجه، بصيغة تشاركية لا أهمية لعمل أحدهما على عمل الآخر، فكلاهما لهما الأدوار الإنتاجية والإنجابية والاجتماعية..وغيرها، لكي نحيا في مجتمع سليم ومتطوّر.

العدد 1105 - 01/5/2024