أزمات صغرى صيرت أزمة اليوم (3).. التعليم في سورية (2)

آليات تقديم حلقات البحث نموذجاً

 بعد لقاء العديد من طالبات كلية التربية بأقسامها المختلفة، وبعد سؤالهن عن آلية تقديم حلقات البحث، كانت معظم الإجابات تنص على قيام الطالبات بشراء حلقات البحث جاهزة من المكتبات وتوجد مكتبات مخصصة لكتابة حلقات البحث للطلاب، مقابل أجر مدفوع وحسب الطلب، كما أن الطالبات يتبادلن حلقات البحث بين الأقسام، ومع الطالبات في السنوات الدراسية الأعلى. وبعد سؤالهن عن سير ذلك مع مدرسي المواد، كانت الأجوبة تجتمع على أن المدرسين لا يمكن أن يهتموا بحلقات البحث لكثرة العدد، وتوضع العلامة بناء على الشكل الخارجي، وأحياناً بشكل اعتباطي ونادراً ما تسأل الطالبات عن محتوى الحلقات. تلك نماذج من نماذج التدريس والتحصيل العلمي في جامعاتنا السورية، ويمكن أن نقيس عليها نسبة لا بأس بها من الكليات. وبالنسبة للتعليم غير المؤسساتي، فالإعلام طريقة غير مباشرة لتقديم المعلومات للمتلقي دون وقاية له، وهنا لا يمكن تقديم صورة واحدة من الداخل، إذ إن السوري يشاهد جميع ما ينشر في وسائل الإعلام من قبل كل الجهات، وخاصة في المرحلة الراهنة والحرب الإعلامية الأيديولوجية الواسعة الطيف التي تقدم كماً مقنعاً من الصور والفيديوهات والتقارير التي يمكن أن تلفت المشاهد، وهذا ملموس بشكل كبير حالياً خلال الأزمة السورية واهتمام السوريين بمشاهدة حالة بلدهم على الشاشات. ومع ولوج عالم الإنترنت (شبكة الإنترنت) في الحياة اليومية أصبح من العسير التحكم أو حتى معرفة ما الذي يستقيه السوري من معلومات، وماذا يتعلم عبر صفحات الإنترنت المختلفة والمتنوعة، والتي تختلف مضامينها بشكل كبير أيضاً حتى التضاد.

ومع وجود المؤسسات الدينية التي تقدم التعليم الديني عبر مجالس ودروس خاصة، يمكن أن نضيف إلى الحالة السورية وسيلة تعليم جديدة تقدم لكل فئة حسب الدين معلومات مختلفة، ويمكن أن تتعاكس هذه المعلومات.

 والبيئة التي يعيش ويترعرع فيها الكائن السوري، لها دورها في تعليمه الكثير، بل هي الحاضنة الأولى والمؤثر الأكبر في طريقة التماس السوري للعلم والمعرفة، وفي تحفيزه وتشجيعه على ذلك، ونجد أن البيئات تختلف من منطقة لأخرى بحسب عدة عوامل.

هناك نقطتان أساسيتان تنتجان عن كم الوسائل التعليمية الرسمية أو غيرها، الأولى، إن تلقي السوري لكمّ كبير من المعلومات عن سوريته وعربيته ووطنيته وقوميته ومجتمعه خلال سنوات الدراسة تلقى استنكاراً كبيراً، عندما يحصل السوري عبر وسائل التعليم غير المؤسساتية وذات وجهات النظر المتنوعة على العديد من الاحتمالات والمواضيع التي كانت مجهولة أو مغيبة وبعيدة عن البحث، وبالتالي يصاب بنوع من زعزعة في هويته وفكره، لأنه لا يحمل الحجج المقنعة، فهو لم يحصل على هذه المعلومات عن طريق البحث وإنما بالتلقين، وأبسط مثال على ذلك هو تقديم معلومات مؤدلجة، مثالها أن اللغة العربية هي اللغة الأرقى ولغة الشعر الوحيدة وكأنها علوية على كل لغة، فيتجلى للسوري اعتزازه بلغته بدرجة خيالية، بينما لا تقدم اللغة العربية بشكل علمي على أنها لغة جميلة ومهمة، ولكنها واحدة من لغات شتى لها الأهمية نفسها أو أكثر بقليل، وكذلك تسويق الكتب المدرسية أن العرب قوة كبيرة لا يمكن هزيمتها، وأن العروبة لا تهزم وأنها علوية متطورة بنفسها، حتى كان السوري يجد نفسه لا يحتاج إلى أي عمل كي يطورها، فهي ليست بحاجة لذلك، في حين بات السوري يجد تشويهاً كبيراً بهذه المعلومات المبالغ فيها وخاصة حالياً… إلخ.

والنقطة الثانية، علمية بحتة، بحيث نجدأن أسلوب التدريس المتساهل في بعض الكليات والمدارس، وأسلوب الحفظ الببغائي، والبعد عن البحث يمكن أن ينتج إنساناً سورياً حتى لو كان خريجاً جامعياً، ولكن ينقصه الكثير من القدرة على التحليل والتفكير العلمي اللذين لم يستقِ منهما الكثير، نتيجة فقدانهما في الوسائل وأساليب التدريس السورية.

هذه سلبيات لا بد أنه كان لها تأثيرها الواضح على الإنسان السوري وعلى تخبطه وقراره ومواقفه خلال أزمته، فمن الطبيعي ألا يجد بعض السوريين عمقاً وتحليلاً لما يحدث في بلدهم، ومن الطبيعي أن نجد بعض الممارسات والمواقف غير الراشدة، وليس مستغرباً أن يحدث تخبط وجدل كبير بين السوريين أو حتى في تفكير السوري نفسه، كلها أسباب ينتج عن بعضها أن التعليم ووسائله وطريقته بحاجة إلى تطوير كبير، وأن السوري سيمر بمراحل صعبة حتى يجد عبر التجربة العلمية كثيراً مما لم يتعلمه في المؤسسات التدريسية، وأن الغد صعب، وأننا بشكل غير مباشر، نتيجة التعليم غير العلمي الدقيق الذي تلقيناه وخاصة في العلوم الإنسانية، ساهمنا بتأجيج الأزمة في الداخل بشكل ما، والذنب ليس ذنبنا إنما ذنب أدلجتنا أحياناً على مبادئ  غير علمية.

العدد 1105 - 01/5/2024