الإبراهيمي وجولة التأسيس للحل السياسي..

ثمة أزمة مستعصية على عرّابي مؤتمر جنيف 2 والحريصين على انعقاده، فالفرقاء السياسيون أو ما يطلق عليهم (معارضو النظام السوري) مازالوا غير متفقين على المشاركة في المؤتمر أو رفض المشاركة، إلا أن الشيء المؤكد أنهم لا يملكون قرارهم، وهم تبعٌ لحلفائهم وداعميهم بالمال أو السلاح أو الموقف. وإذا كان الروس وحلفاؤهم قد تمكنوا من إقناع الأمريكان بضرورة (إجبار المعارضة السورية على المشاركة في جنيف 2)، فإن الإبراهيمي أكد أكثر من مرة، لاسيما في جولته الأخيرة، التي ختمها قبل أيام قليلة، والتي تابع فيها تفاصيل التحضير للمؤتمر، أن (المعارضة السورية تواجه مشاكل كثيرة (…) ولن يعقد المؤتمر دون معارضة مقنعة تمثل جزءاً مهماً من الشعب السوري المعارض). ولعل اعتراف الأخضر الإبراهيمي هذا بمشاكل المعارضة وتعقيداتها، يؤكد توزّع ولاءات المعارضة السورية على أكثر من جهة، وبالتالي فإن مشاركتها في أي مؤتمر للسلام في سورية من شأنه أن يضع حداً لحمّام الدم السوري، ولن يكون ذلك دون موافقة أرباب نعمتهم ومموليهم، لاسيما من السعوديين، ومن هنا تبدو مهمة الإبراهيمي أكثر صعوبة، إذ من الصعوبة بمكان أن يتم التوفيق بين الموقف الروسي والإيراني الراغب بوضع حد للاقتتال والتمهيد للعملية السياسية، وبين الموقف السعودي والتركي الراغب باستمرار نزيف الدم السوري وتدمير ما بقي من بنىً تحتية ومرافق اقتصادية في سورية، وبين هذين الموقفين يبرز موقف جديد آخذ بالتبلور وفق رؤىً ومعطيات جديدة، هو موقف الحكام الجدد لقطر ورغبتهم المزعومة بالمساهمة في وضع حدّ للاقتتال في سورية، ووقف عمليات القتل والتدمير وتقويض أركان الاقتصاد السوري، وموقفٌ مصري جديد أعقب الموقف الإخواني الذي لطالما تمنى إسقاط النظام السوري، حتى ولو كان بعدوان خارجي، ليحل محله موقف عروبي رافض لأي تدخل في الشؤون الداخلية السورية، أو محاولات تقويض أركان الدولة السورية ومساعدة المجموعات المتطرفة التي تريد إدخال مصر في النفق الذي أُدخلت سورية فيه. ويبدو أن الروس يدركون جيداً هذا الأمر، ولذا أعلن رئيس دبلوماسيتهم  سيرغي لافروف أن الجميع يدعمون (جنيف 2) بالأقوال، إلا أن بعض الدول المموّلة للمعارضة السورية تعمل مباشرة على تقويض الجهود الرامية إلى عقد المؤتمر. وقال، عقب مباحثاته مع نظيره الأوكراني ليونيد كوجارا، إن كل جماعة في صفوف المعارضة السورية لها مموّل أو مشرف عليها في المنطقة أو خارجها، مؤكداً أن الجميع يدركون ذلك جيداً، وبضمن ذلك الإدارة الأمريكية. كذلك أكد الوزير الروسي أن على مموّلي الجماعات المسلحة في سورية أن يتحملوا المسؤولية تجاه مصير الحل السياسي في هذا البلد. وقال الوزير الروسي إن عدداً من الجماعات المسلحة تنشق حالياً عن (الائتلاف) المعارض، بينما تعلن بعض الجماعات الأخرى أنها قريبة من تنظيم (القاعدة) الإرهابي وتعمل بتوجيهات منه. وأعرب لافروف عن غضبه بشأن تهديد بعض الجماعات المعارضة للمشاركين  المحتملين في (جنيف 2)، وبضمن ذلك بعثات روسيا الدبلوماسية في الخارج، مشدداً على أن ذلك أمر غير مقبول. وأكد أن هذه الجماعات هددت كذلك الدول التي تدعو إلى البحث عن حل سياسي وتعارض استخدام القوة الخارجية لتسوية الوضع.

وكان وزير خارجية مصر نبيل فهمي أعلن عقب لقائه الإبراهيمي  تأييد مصر الكامل للحل السياسي للمشكلة السورية، الحل الذي يحقق تطلعات الشعب السوري وآماله في حياة حرة ديمقراطية كريمة للجميع، ويحافظ على وحدة سورية كدولة وعلى صيانة أراضيها. مؤكداً أن الهدف المصري في النهاية هو تمكين الشعب السوري، من خلال عمل سياسي بعيداً عن العنف من أي طرف، من تحقيق أهدافه في الحفاظ على وحدة سورية، بشكل حر وكريم داخل الأراضي السورية ولجميع الأطياف السورية.

وقد حضّ وزراء الخارجية الأوربيون (المعارضة السورية) على المشاركة في المؤتمر، فيما شدد الموفد الأممي الأخضر الإبراهيمي على وجوب أن يضم المؤتمر (كل من له مصلحة ونفوذ في الشأن السوري). وقبل أيام من وصول الإبراهيمي إلى دمشق في إطار جولة إقليمية يقوم بها تحضيراً لمؤتمر السلام، طلب الرئيس السوري، أثناء لقائه مع قناة الميادين، من الإبراهيمي (عدم الخروج عن إطار المهام) الموكلة إليه، داعياً إياه إلى التزام الحياد، وقال: (نطلب منه أن يلتزم بمهامه، لأنه مكلف بمهمة وساطة، والوسيط يجب أن يكون حيادياً، لا يقوم بمهام مكلف بها من قبل دول أخرى)، وإذا كان للإبراهيمي محطة في بغداد وإيران وتركيا وقطر وسورية، فإن محطته في جنيف ستكون للقاء ممثلين عن الجانبين الروسي والأمريكي، لوضعهم في صورة ما تم التوصل إليه والاتفاق عليه مع الدول المعنية بالأزمة السورية.

وعقب لقاء عقد مؤخراً بين لافروف وكيري، أكد كيري للصحفيين  أنه (سيحث على تحديد موعد لمؤتمر جنيف بأسرع ما يمكن)، ووصف كيري اجتماعه مع لافروف (بأنه من أكثر الاجتماعات البناءة التي عقدناها) وأنهما تحدثا طويلاً عن كيفية دفع الأطراف المتحاربة في سورية إلى الجلوس معاً لإجراء محادثات في جنيف تعرف باسم جنيف ،2 وقال كيري: (اتفقنا مجدداً أنه ما من حل عسكري هنا، ومن مصلحتنا المشتركة، ألا يكتسب المتشددون المتطرفون من الجانبين أي وضع أقوى في سورية، ولهذا نعيد التزامنا اليوم بجهود محددة للغاية، لتحريك عملية السلام بأسرع ما يمكن). إلا أن العقبة الأصعب أمام الأمريكان وحلفائهم، والتي يريدون من الإبراهيمي تذليلها، هي عقبة التوفيق بين بعض الشخصيات (المعارضة) بغية جرّها إلى جنيف، ذلك أن الأمريكان يدركون جيداً أن الائتلاف لم يعد يسيطر على شيء، وقد أعلنت معظم الفصائل براءتها منه، ولذلك فإنه سيذهب عارياً إلى جنيف،2 وهكذا فإن أمريكا تسعى، من خلال جولة الإبراهيمي، إلى البحث عن صيغة لوفد موحد يمنع انفجار الائتلاف وتشرذم المعارضة أكثر مما هي عليه، وهي تحاول تذليل الكثير من العقبات قبل الذهاب للمؤتمر، فهي تريد تمثيلاً للشخصيات المحسوبة على التيارات العلمانية والليبرالية على حساب تمثيل جماعة الإخوان المسلمين التي تريد أن يكون تمثيلها يعكس وزنها داخل المجلس الوطني السوري والائتلاف السوري أي نحو 70%  من الوفد، وهذا ما ترفضه واشنطن والسعودية أيضاً التي أيدت عزل الإخواني مرسي وإنهاء نظامه. من جهة أخرى تعتبر أمريكا أن هيئة التنسيق المعارضة ترتبط بعلاقات متينة بروسيا، وبوجودها داخل وفد المعارضة سيكون للروسي علاقات جيدة بالمعارضة فضلاً عن تحالفه مع النظام، ولذا يسعى الأمريكي إلى إيجاد صيغة  لحل هذه المعضلة. من جهة أخرى تحاول أمريكا إقناع حلفائها بخطر المجموعات المتطرفة الآخذة بالسيطرة على المشهد المسلح في سورية، لاسيما أن هذه التنظيمات المتطرفة ستشكل مستقبلاً خطراً حقيقياً على دول المنطقة والعالم بأسره. خاصة أن التعثر الميداني لبعض التشكيلات العسكرية التي راهن عليها بعض الغرب، أدى لهيمنة تنظيمي (داعش) و(النصرة) على المشهد الميداني، والسقوط السياسي للعديد من القوى المؤتلفة في (الائتلاف الوطني) المعارض في الخارج، بسبب عجزها عن بلورة خطاب جامع للسوريين، وتعدد ولاءاتها لأجندات خارجية، وتناحر صفوفها الداخلية أولاً…  وفشلها، ثانياً، في مواكبة التحولات الدولية وخصوصاً التبدل الذي جرى في العلاقة الأمريكية  الروسية في الشهور الأخيرة، وانكفاء الإدارة الأمريكية إلى مشكلاتها الداخلية.

مما تقدم يمكن القول: إن الإبراهيمي سيعمل بكل ما أوتي من حنكة، لاسيما بعد تغيّر الموقف الدولي لصالح الحل السياسي، لجمع شمل البعض في (المعارضة السورية) بغية إشراكهم في المؤتمر المقرر عقده في جنيف، ذلك أن فشل المؤتمر وعدم انعقاده من شأنه أن يفسح المجال أكثر أمام التنظيمات المتطرفة، ويضع المنطقة برمتها أمام خطر انفجارٍ كبير من شأنه أن يُلحق الضرر الكبير بالدول الكبرى ومصالحها في المنطقة، وأن يجرّها إلى المجهول.

العدد 1105 - 01/5/2024