من الصحافة العربية العدد 602

محاكمة مرحلة (الأصنام)..

 

هل تسمح الهموم اللبنانية الثقيلة، أمنياً ومعيشياً، وبالأساس سياسياً، والتي تنوء بحملها (الرعية) في هذا الوطن الصغير والجميل والمهدد في كيانه، بالتفاتة إلى ما يجري خارج الحدود قد تمنح (المواطن) فرصة الحلم بأن يستطيع  ذات يوم؟!  أن يمارس حقه في محاسبة نظامه وحاكميه، وان يُسقِط المقصِّر والمرتكب جرم الخيانة العظمى، عبر التحالف مع العدو الإسرائيلي، كما حدث أكثر من مرة، أو التعامل مع الأجنبي، فضلاً عن المرتشي والمتسبب في تعطيل الدولة، ودفع البلاد وشعبها نحو أتون الحرب الأهلية؟!

هل تمنحنا المقادير، في لبنان كما في سائر البلاد العربية، الفرصة في أن نشهد حدثاً تاريخياً، من خارج السياق، تفرضه الإرادة الشعبية كنقطة تحول جذري في سياق النضال من أجل الغد الأفضل، كالذي يعيشه أهل مصر، الآن، وإن اختلفت أكثريتهم الساحقة في نظرتها إليه مع أقليتهم المؤثرة؟!

فلسوف يحتل صباح هذا اليوم، الاثنين الواقع فيه الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) ،2013 موقعاً مضيئاً في الذاكرة العربية جميعاً، وليس المصرية وحدها، وقد يكون فاتحة تاريخ جديد لهذه المنطقة التي كادت تُحذف بأهلها من الدنيا، إذ أُسقطت عنها هويتها القومية لتصير مجرد (جهة)، (الشرق الأوسط)، يحددها موقعها الجغرافي بالنسبة إلى القوى الدولية التي تتوزع العالم بنفوذها.

اليوم، وفي القاهرة، ستبدأ محاكمة رئيس ثان للجمهورية، هو الدكتور محمد مرسي، بعد الرئيس المقال حسني مبارك، خلال ثلاث سنوات إلا قليلاً، فيؤتى به من محبسه ليقول القضاء كلمته في حكمه الذي لمّا يمتد لأكثر من عام واحد، فأسقطه (الميدان) كما أسقط سلفه، من قبل، بالثورة الشعبية، وما تزال محاكمته جارية، مع حاشيته وناهبي ثروة مصر، منذ سنتين إلا قليلاً.

وبغض النظر عن الاختلاف في الظروف وفي المواقف السياسية، بين الرئيس العسكري الذي (ورث) الرئاسة عن أنور السادات بعد اغتياله، والرئيس (المدني) الذي حمله اختلاف أفرقاء المعارضة لمن سبقه إلى السدة، فإن محاكمة كل من الرئيسين السابقين، حاضراً أمام هيئة محكمة مدنية تضم عدداً من كبار القضاة في مصر، تعتبر حدثاً استثنائياً، بل فريداً، في منطقة تعودت أن (يحاكِم) الرئيس  الملك  الأمير  الشيخ  العقيد  الفريق  السلطان شعبه، ومن دون أن يجرؤ أحد على التفكير، مجرد التفكير، بمحاسبة صاحب الأمر… ولعل أكثر من شعب عربي سيتابع، بقلبه وعقله قبل عينيه، وقائع هاتين المحاكمتين، ولا سيما تلك التي تجري اليوم، وهو يتمنى  أو يحلم!  بأن يشهد في بلاده مثل هذه السابقة التاريخية المثيرة: أن يحاسَب الحاكم وجاهياً وفي حضور محاميه، على ما اقترف (نظامه) من جرائم وارتكابات بحق مصالح وطنه وحقوق شعبه وحرياته.

ولقد مرَّ في تاريخ (الجمهورية اللبنانية)، على سبيل المثال، رؤساء للدولة تسببوا في نشوب حروب أهلية، وتعاملوا مع العدو الإسرائيلي، علناً، واتّهموا  مع رؤساء حكومات ووزراء، ومع رؤساء للمجلس النيابي  بإلحاق الأذى الجسيم بالدولة ومصالح الشعب.. ثم أمضوا تقاعدهم المريح في المصايف والمنتجعات، في الداخل والخارج!. بل إنهم غالباً ما حاولوا أن يعودوا إلى السلطة ومغانمها، ولو من الباب الخلفي، من غير أن يخافوا المحاسبة، فكيف بالمثول مخفورين أمام المحكمة؟!

وبطبيعة الحال فإن السرطان الطائفي والمذهبي الذي يضرب البلاد يجعل من محاسبة القيادات (فتنة)، بل إنه غالباً ما يحوّل (المرتكب)، سواء أكان متسبباً في جرائم قتل أو اختلاس بالتزوير أو التعامل مع الأجنبي، بمن في ذلك العدو الإسرائيلي، إلى (بطل) في بيئته، وإلى شريك ضروري في الحكم… وإلا فالحرب الأهلية التي تتخذ من (حقوق الطوائف) عنواناً.

***

إن العرب يعودون إلى التاريخ، بعدما أخرجهم (سلاطينهم) منه.

لقد تحول أهل النظام العربي إلى (أصنام مقدسة)، وفرض على الشعوب المقهورة أن تخضع لها، والعصا لمن عصا.. بل ما هو أقسى من العصا وأكثر إيلاماً. فكثيراً ما تحول المعارض (العنيد) رافض رشوة النظام للالتحاق به، إلى (عميل للأجنبي وخائن للوطن) وتمت محاسبته بقسوة فاحشة، وأحياناً بالقتل مع إخفاء جثته، وفرض الخرس على أهله وذويه.

من هنا تكتسي محاكمة (الفرعون)، في مصر، علناً، وأمام هيئة قضائية غير مطعون في نزاهتها، أهمية استثنائية، ليس بالنسبة للمصريين وحدهم بل بالنسبة للعرب جميعاً الذين طالما فرض على شعوبهم أن يخضعوا للحاكم الفرد حتى الوفاة، أو حتى التدخل الأجنبي الذي يلغي الدولة جميعاً.

إنها ليست محاكمة لفرد، أو حتى لحزب، كما هي الحال مع مرسي والإخوان المسلمين، بل هي محاكمة لمرحلة من التاريخ العربي الحديث بالمسؤولين عن مسارها بالخطايا والأخطاء القاتلة فيه… خصوصاً ان بعض هذه الأخطاء والخطايا قد مكَّن للعدو الإسرائيلي، وللهيمنة الأجنبية على إرادة الأمة، واستطراداً فإنها مكنت لحاكم السوء أن يستمر في السلطة طالما ظل قادراً على التحكم ب(الأجهزة) و(المصالح)، قامعاً الشارع، مما يأتيه برضا (الدول) ودعمها… وبديهي ألا تكون هذه الدول أحرص على البلاد من ابنها البار الذي (قبض) على الرئاسة في لحظة قدرية قد تمتد دهراً، ثم تنتهي مع انفجار الثورة… وعندها تنقلب (الدول) إلى امتداح الثورة والثوار، وتؤكد أنها مستعدة للتعامل مع (العهد الجديد)، كما فعل وزير الخارجية الأمريكية، أمس، في القاهرة…

وليست هذه المرة الأولى التي تمشي فيها (الدول) في جنازات أصدقائها المخلوعين، ولن تكون الأخيرة! فهي أولاً وأساساً ودائماً مع (مصالحها) وإلى الجحيم (الأصدقاء) إذا استدعت ذلك حماية المصالح!

طلال سلمان

(السفير)، 3/11/2013

 

آل سعود… العداء للإسلام والعروبة

 

يبدو أن آل سعود غاضبون الآن على الإدارة الأمريكية لما بدر منها من سوء تصرف في سورية، بل هم ساخطون على المجتمع الدولي بسبب تراخيه عن (نجدة الشعب السوري). هذا ما حملهم على رفض المقعد المؤقت في مجلس الأمن، الذي فازوا به بعدما ترشحوا له. ولكن لحسن الحظ أنّ أصدقاء آل سعود عبّروا عن تضامنهم معهم. أعلنت الحكومة الفرنسية أنها تتفهم الموقف السعودي، من دون أن تكشف طبعاً عن أسباب تأثرها بجاذبية آل سعود. أما المعارض السوري الذي تخيّل نفسه، في وقت ما، رئيساً لسلطة سورية في ظل انتداب فرنسي جديد، فلقد شبّه موقف الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من الأزمة السورية، بتوافق حكومتي فرنسا وبريطانيا مع الحكومة الألمانية النازية، في ميونيخ، سنة 1938.

يمكننا أن نلخص ما نعرفه عن آل سعود، بالنقاط الآتية:

– مناهضتهم للوحدة بين مصر وسورية (1958  1961) ورشوة بعض أركان النظام الناصري في سوريا بمبالغ مالية ضخمة من أجل اغتيال جمال عبد الناصر.

– تأليب القبائل اليمنية ضد الانقلابيين الذين أسقطوا السلطة الإمامية سنة ،1962 وتلقوا الدعم من الحكومة المصرية، فقد دارت على أرض اليمن حرب ضروس استمرت طيلة الفترة الممتدة بين فشل المشروع العروبي في سورية، الذي جسده الانفصال، ومرارة هزيمة الناصرية على ضفاف قناة السويس سنة 1967 التي أظهرت آنذاك هشاشة بنى الدولة العربية التي توكلت بتحقيق المشروع المذكور. لقد ساعد آل سعود جميع المستعمرين الذين أشهروا العداء للناصرية. أغلب الظن أنهم ساهموا في فشلها وفي هزيمتها.

– ما نعرفه أيضاً عن آل سعود، مطاردتهم للمعارضين لحكمهم حتى القضاء عليهم قضاء مبرماً. نذكر هنا المناضل ناصر السعيد الذي اختطف في بيروت سنة 1979. من المرجح أن يكون خاطفوه قد (باعوه) إلى آل سعود بعشرة ملايين دولار. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الوعي السياسي لدى ناصر السعيد تكوّن أثناء عمله في الشركة الأمريكية – السعودية – أرامكو، حيث بدا له أنّ بلاده التي تحولت على أيدي البريطانيين إلى (سعودية)، صارت في الحقيقة (مملكة أرامكو) بعد اجتماع عبد العزيز بن سعود بالرئيس الأمريكي روزفلت على ظهر البارجة الأمريكية كوينسي سنة 1945. أكتفي بهذا الاستطراد حتى لا يتهمني المناضلون واليساريون القدامى الذين فضلوا (حريرية آل سعود) وادعوا أنهم ثوار باسمها، بالسادية. فتاريخ الأخيرين يفضح أمرهم كأدوات استعمارية ضد حركة التحرر العربية. ليس الدور الذي يؤديه في الراهن الأمير السعودي بندر بن سلطان، بجديد، وإنما هو تكرار لدور أتقنه أمراء سبقوه. لعل أبلغ دلالة على ذلك تجسدها العلاقة الوطيدة التي كانت تربط الرئيس الأمريكي الأسبق بوش بالأمير السعودي المذكور، والتي صدرت حولها كتب؛ منها (آل بوش وآل سعود) و(حالة إنكار).

أتساءل في الواقع لماذا يهم وسائل الإعلام ودوائر السياسة الدولية موقف آل سعود؟ إن مداورة هذه المسألة في ذهني أوصلتني إلى أن سلطة آل سعود ترتكز على دعامتين عربيتين مسروقتين. تأسيساً عليه، كل السياسة التي ينتهجها آل سعود، إنما الغاية منها هي إخفاء أو تغطية هذه الخُلسة التاريخية، إذا جاز القول. أعني بهذا أنهم أسروا الإسلام وحرفوا الكلام ليستخدموه في بناء شرعية لحكمهم هذا من ناحية، أما من ناحية ثانية فلقد استولوا على الثروات الطبيعية الجوفية في شبه الجزيرة العربية التي من المفروض، في إطار مفهوم منطقي لمصطلحات كمثل (الأمة العربية) أو (الأمة الإسلامية)، أن يوزع ريعها على الأقطار المشمولة بهذه المصطلحات بواسطة مؤسسة تنظم هذا التوزيع وتشرف على حسن تنفيذه.

أين نحن من هذا كله؟ هذا ما يحمل آل سعود على العمل الدؤوب من أجل إفراغ الرسالة المحمدية من جوهرها من جهة، وعلى محو الثقافة العربية من جهة ثانية. أي بكلام أكثر وضوحاً وصراحة، واستناداً إلى الوقائع التاريخية التي بين أيدينا، إن آل سعود هم في الحقيقة في حالة حرب ضد الإسلام والعروبة معاً، منذ إعلان قيام مملكتهم في سنة ،1927 برعاية بريطانية على قاعدة موافقتهم على أن تكون هذه المملكة (نصف – مستعمرة)، أي مشتركة بينهم وبين المستعمرين البريطانيين. قبل أن تصير هذه الشركة ثلاثية بعد دخول (أرامكو)… كصاحبة للحصة الأكبر فيها!

أظن أن ما تقدم يسلط الضوء الكاشف على لغز حماسة آل سعود واندفاعهم من أجل تخريب سورية وزرع بذور الفرقة بين السوريين عن طريق تسويق قراءة للدين الإسلامي، ليست من الدين في شيء بحسب قراءة موضوعية وتحليلية ومنطقية للنص الديني. وتبسيطاً للأمور، ومنعاً للانجرار إلى متاهات الأحكام الكيدية والوقوع في الخلط بين العلمانية والإلحاد، أعترف بأني أعتمد في اتهام آل سعود بالتزوير، قراءة الشيخ عبد الله العلايلي، في (أين الخطأ)، إضافة إلى قراءة المفكر التونسي يوسف صديق، للقرآن الكريم، كنموذجين للقراءة الصحيحة والمتنورة التي تلائم متطلبات هذا العصر.

مجمل القول إن اندفاعة آل سعود للحرب على سورية، إنما مردها إلى إطفاء الأمل بانبعاث نهضة ثقافية وسياسية عربية، تعيد الناس في دنيا العرب إلى المساهمة في صناعة تاريخ الإنسانية، التي منعهم عنها المستعمرون الذين اعتمروا الحطة والعقال وتلفعوا العباءة، على شاكلة آل سعود وأمثالهم. فتوهم الناس بأنهم تحرروا من الاستعمار. بمعنى آخر إن المستعمرين يشنون الحرب على سورية، وقد تخفّوا بزيّ آل سعود ورجال دينهم. ولكن غاب عن الأخيرين أن الذين يخربون اليوم سورية ومصر والعراق، وربما الجزائر غداً، لن يصعب عليهم بعد ذلك تخريب مملكتهم…

ثريا عاصي

(الأخبار)، 6/11/2013

العدد 1105 - 01/5/2024