سقوط النموذج التركي

جرى الحديث، بعد هبوب عواصف (الربيع العربي) وصعود حركات الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في أغلب الدول التي زارها هذا (الربيع)، عن النموذج الذي يجب أن يُحتذى في البلدان العربية التي صعدت فيها الحركات الإسلامية إلى مواقع صنع القرار في الدولة، أو في البلدان التي تشارك فيها هذه الأحزاب في إدارة اللعبة السياسية أو تنشط في مجال الحقل العام والخدمات الاجتماعية والثقافية. وطُرِحَ في هذا المجال نموذج حزب العدالة والتنمية التركي بوصفه نموذجاً ناجحاً يُقدم الصورة الحضارية للإسلام، ويمكن أن يُطبّق من قبل حكومات (الربيع العربي).

لكن هل يستحق هذا النموذج فعلاً أن نقتدي به ونأخذه نبراساً نهتدي بهديه؟

للإجابة عن هذا السؤال، لا بد أولاً من توضيح أهم الأسس التي قامت عليها (التجربة التركية):

1- العلاقات السياسية والاقتصادية والتعاون مع إسرائيل، وإسرائيل بالنسبة لنا كيانٌ غير شرعي، غُرس في قلب الأُمة العربية غرساً، ليكون رأس حربة الغرب الموجّهة نحونا.

2- عضوية حلف شمال الأطلسي، فتركيا هي العضو المسلم الوحيد في هذا الحلف، التي تقوم بتغطية سياساته العدوانية نحو بلدان العالم الثالث عموماً والعالم الإسلامي خصوصاً (غزو أفغانستان، احتلال العراق، المؤامرة على سورية). وتكفي هذه العضوية وهذا الدور حتى تنتفي صلاحية هذا النموذج باعتباره صالحاً لنا.

3- خلط المفاهيم العلمانية مع بعض المبادئ الإسلامية، فبدلاً من إعادة قراءة الإسلام بطريقة علمية ومعاصرة تستجيب لظروف الواقع وتنسجم مع متطلبات العصر الحديث ومشاكله، أخذ حزب العدالة والتنمية من الإسلام المظاهر والطقوس، واستخدم الشعارات البراقة، بهدف توظيف العاطفة الدينية في خدمة الأهداف السياسية والمصالح الاقتصادية للحزب.

4- يهدف الحزب إلى إعادة إحياء الدولة العثمانية، إذ يُعرّف أعضاء حزب العدالة والتنمية عن أنفسهم بِالعثمانيين الجدد، ويُركّز خطابهم السياسي على البعد العثماني للدولة التركية، وإذا أضفت، إلى العقلية الحاكمة لصقور هذا التيار، النزعة الغربية الاستعمارية، إضافةً إلى النظرة الأطلسية الفوقية، دون أن ننسى الماضي وآلامه والتاريخ المظلم وأتراحه الذي دوّنت سطوره التجربة المرّة للاحتلال العثماني لبلادنا، وما رافقها من مذابح يندى لها جبين الإنسانية خجلاً، عندئذ سيبدو أدولف هتلر أمامهم حملاً وديعاً.

5- النزعة القومية التي تحاول نشر التتريك الناعم للشعوب التي كانت دائرة في مجال الدولة العثمانية، وفرض الهوية العثمانية بالقوة في الداخل، على أساس رؤيتهم للقضية الكردية أو الأرمنية وحتى العلوية، إذ نلاحظ أن التمييز العرقي أو الطائفي والمذهبي يطول أطيافاً كثيرة من المجتمع التركي. هذا الفعل ذو الطابع الاستبدادي يقوم على نظرية احتكار السلطة من منظور الحزب الواحد. وما يتبدى أحياناً أنه تنازلات سياسية من جانب العثمانيين الجدد لا يعدو عن كونه ترتيباً للأوّليات، في ظل ما تشهده المنطقة من تحولات خطيرة.

6- الليبرالية الاقتصادية، هذا النموذج قد يحقق زيادة في الإنتاج، ومن الممكن أن يحقق بعض الأرباح، لكنه لا يمكن أن يحقق العدالة الاجتماعية على المدى البعيد، لأنه يرهن مقدرات البلد جميعاً ويُخضعُها للرأسمال الأجنبي الذي يفتش عن الربح غير آبه بأي شيء آخر.

ولسوء حظنا كان المسرح الأساسي الذي ستُعبر فيه هذه النزعة عن نفسها هو المنطقة العربية، ولكن هذه المرة بلغة إسلامية ومظهر أوربي وباطني شوفيني النزعة، والذي للأسف لاقى الترحاب عند البعض الذي أعلى الرابطة الدينية المذهبية على الهوية القومية، وقدّم العقيدة على مفهوم الوحدة الوطنية، مما قد يُنذر بشق صف اللحمة الوطنية، في بعض بلدان المنطقة، خدمة لطموح بعض المتطرفين القوميين والمتعصبين الدينين في أنقرة، الذين قرروا في لحظة ما أن الوقت قد حان لإعادة المجد لدولة بني عثمان.

قام النموذج التركي استناداً إلى مبدأ هام، وهو أن الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية قادرة على بناء أنظمة ديمقراطية مستقرة داخلياً و منفتحة خارجياً، وقادرة على تحقيق رخاء اقتصادي لشعوبها، وتستطيع الإسهام في بناء الاستقرار الإقليمي. وبعبارة أخرى يُصرح النموذج التركي بعدم وجود تعارض بين المرجعية الإسلامية والمرجعية الديمقراطية.

استطاعت تركيا بالفعل في السنوات الأولى لحكومات حزب العدالة والتنمية أن تحقق نجاحاً ملموساً في عدد من القضايا الاقتصادية والسياسية، إذ استطاعت أن تتقدم إلى المستوى ال17 في ترتيب الاقتصادات الدولية، وهو ما أضفى نوعاً من النجاح الظاهري على النموذج التركي، لكنه ظل قاصراً عن إخفاء الجوانب المظلمة للمجتمع التركي. فما زالت قضية أكراد تركيا معلّقة في الهواء، واحتمالات عودة حزب العمال الكردستاني للأعمال العنيفة قائمة بقوة الآن، بل إن زيادة التوظيف التركي للانقسامات الطائفية في الأزمة السورية، تحّول إلى قنبلة قابلة للانفجار قي أي لحظة داخل تركيا نفسها، لا سيما فيما يتعلق بالعلويين الأتراك الذين يشعرون بمرارات شديدة، من القيود الدينية والثقافية المفروضة عليهم، إضافة إلى الشحن الطائفي الذي شُن ضدهم بسبب الصراع الدائر في سورية. أما بالنسبة الأرمن، فحدّث ولا حرج، فحتى الآن لم يستطيعوا الحصول على وعد من الحكومة التركية بإجراء تحقيق غير متحيز وموضوعي في (ادعاءات الإبادة)، حسب قول الأتراك، التي ارتُكبت عام 1915 بحقهم.

ومما سبق، نستطيع القول إن قواعد المنظومة الديمقراطية في النموذج التركي ليست على ما يرام، صحيح أن هناك انتخابات حرة، لكن الحريات بمعناها العام تعاني الكثير من التراجع، وشعور فئات اجتماعية بالخوف على نمط الحياة التركي المدني بات في ازدياد متصاعد، ومعاناة العديد من الصحفيين الأتراك في السجون التركية أصبحت أمراً عادياً متكرراً، إذ يوجد نحو 83 صحفياً تركياً في السجون، لمعارضتهم سياسات حزب العدالة والتنمية، فضلاً عن سجن عدد كبير من قيادات الجيش التركي مؤخراً، بذريعة الاشتراك في مؤامرة (أرغينكون)، التي يتهم أردوغان الجيش بتدبيرها للإطاحة به من سدة الحكم.

إن الحلم السلجوقي للعثمانيين الجدد قد بدأ بالاندثار، ولقب السلطان الذي كان أردوغان يحلم به كان سحابة صيف عابرة.. فبعد أن تدثّر العثمانيون الجدد بعباءة (الإسلام الناعم) موهمين الغرب بقدرتهم على تقويض الحضارة العربية والقضاء على رسالة العرب الإنسانية، وتعطيل قدرة العرب على الدفاع عن حقوقهم المشروعة ومصالحهم الحيوية ضد الذئب الصهيوني الذي يرتع في سهولنا وجبالنا، بانت نواياهم الخبيثة عندما كشّروا عن أنيابهم، واستعدوا لتقاسم الغنيمة مع شريكهم الإسرائيلي.. لكن حساب البيدر لم يطابق حساب الحقل، لأن صمود سورية في وجه الغزو الهمجية التي شُنت عليها قد حطّم الحلم العثماني، وتبعثرت شظاياه في أحداث ساحة (تقسيم)، قاسمة المجتمع التركي إلى تيار علماني وجماعة دينية قد يرسم صراعهما على السلطة مستقبل تركيا في قادم الأيام.

العدد 1104 - 24/4/2024