بداية انعطاف تاريخي في الشرق الأوسط

يمكن القول بأن اتفاق جنيف بين إيران والدول الست هو حصيلة مواجهة ملتهبة وغير عادية، على مدى سنين، تفاقمت نوعياً منذ اندلاع الأزمة السورية، كادت خلالها أن تتحوّل، أكثر من مرة،  إلى حرب إقليمية مدمرة لا يمكن التكهن بأبعادها الدولية. وخلال هذه المواجهة العريضة جرى فرز للقوى، بدا طابعه الطبقي سافراً. فقد اصطفت السعودية مع إسرائيل دون مواربة هذه المرة، كما جرى تشابك للأزمات الأساسية في المنطقة على نحو غير مسبوق، من الأزمة السورية الدامية  إلى الأزمة الإيرانية – التي شكل تخصيب اليورانيوم في إيران واجهة لأهدافها الحقيقية –  إلى الارتباط غير المباشر بقضايا مزمنة في المنطقة، وفي مقدمتها النزاع الإسرائيلي – العربي وبخاصة الفلسطيني، وامتلاك إسرائيل للسلاح النووي دون غيرها في المنطقة،  إلى جانب الصراع المتصاعد على موقع القوة الإقليمية الأولى في المنطقة.

ولعل المغزى الأساس لهذا الاتفاق أنه يمثل إقراراً من الولايات المتحدة بالفشل في التغلب على محور إيران – سورية – المقاومة اللبنانية، المدعوم بتأييد الشعوب العربية، والذي عرقل بنجاح تنفيذ مشاريعها في المنطقة ك(الشرق الأوسط الجديد) وسواه، رغم ضخامة القوى الدولية والإقليمية المعادية التي جرى تحشيدها في هذه المواجهة. وبالتالي، ينبغي الافتراض بأن الاتفاق التاريخي الذي تحقق في جنيف سيمثل علامة طريق على تحوّل استراتيجي في سير الأحداث في المنطقة، وسيفرض إعادة ترتيب للقوى فيها، بما يعزز فرص معالجة وتسوية قضاياها، على نحو يستجيب لمصالح وطموحات شعوبها.

وإذا كانت تسوية قضية الكيماوي السوري قد أسهمت في إنجاح اتفاق جنيف الأخير، فإن هذا الاتفاق سيساهم بدوره في تسوية الأزمة السورية. لكن الإنجاز المباشر والأهم، حتى الآن، من هذا الاتفاق هو استبعاد خطر الحرب عن المنطقة وشعوبها، والذي كان هدفاً يدفع نحوه حكام إسرائيل والصقور في الولايات المتحدة على وجه الخصوص بتعطش وهوس.

وهذا بالضبط ما جعل الاتفاق المذكور يصيب حكام إسرائيل بحالة من الهستيريا، إذ عليهم أن يتوقعوا، في ضوء هذه التطورات، أن يتحوّلوا  إلى الدفاع الصعب في أكثر من قضية مفصلية بالنسبة لهم، في المقدمة منها: امتلاكهم للسلاح النووي وغيره من أسلحة الدمار الشامل، إذ المعركة المتوقعة ستكون لإخلاء المنطقة من هذه الأسلحة، وكذلك التوقعات الواقعية بفقدان إسرائيل لموقع القوة الإقليمية الأولى في المنطقة، وبالتالي، تقلص فرصها في فرض تسويات وفق طموحاتها للنزاع العربي – الإسرائيلي، وبخاصة للقضية الفلسطينية.

ومن الحقائق التي أكدها اتفاق جنيف الأخير أن حكام إسرائيل والسعودية ومن على شاكلتهم في المنطقة، الذين بذلوا كل جهودهم لمنع اتفاق جنيف المذكور، ليسوا، في آخر الأمر، إلاّ أدوات، حين يتعلق الأمر بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية، وأن الهامش الذي كان يتحرك فيه حكام إسرائيل، على وجه الخصوص، الموسوم بأعمال الزعرنة والعدوان كان يتوافق مع هذه المصالح وفي خدمتها، أو على الأقل، لا يتعارض معها، وليس تعبيراً عن استقلاليتهم. وفيما يتعلق بلعب نتنياهو في الساحة الأمريكية بين الإدارة ومعارضيها في الكونغرس، فلا مكان له حين يتعلق الأمر بهذه المصالح الاستراتيجية.

أما على الصعيد الدولي، فقد أثبت اتفاق جنيف المذكور أمرين أساسيين، الأول: الدور الطليعي الذي لعبته الدبلوماسية الروسية، التي كان زمام المبادرة بيدها معظم الوقت، وتداعيات ذلك إقليمياً ودولياً، بما في ذلك تأكيد انتقال النظام الدولي من القطب الواحد  إلى المتعدد الأقطاب. بينما الأمر الثاني هو تراجع دور الولايات المتحدة ونفوذها في المنطقة. ويعود ذلك  إلى حالة الإنهاك التي سببتها لها حرب أفغانستان والعراق، ثم الأزمة المالية – الاقتصادية الأخيرة التي ما تزال مفاعيلها تتواصل في الاقتصاد الأمريكي كما في العالمي، هذا،  إلى جانب التوجهات الأمريكية الاستراتيجية الجديدة بنقل مركز ثقل تركيزها  إلى الشرق الأقصى، في محاولة لتطويق ومحاصرة الصين الخصم الرئيسي اليوم للولايات المتحدة.

وفي ضوء هذه التطورات النوعية الواعدة يبرز التساؤل فيما إذا كانت القيادة الفلسطينية ستستخلص الاستنتاجات الضرورية منها، وبالتالي تعيد تقييم نهجها، وتتخلى عن الرهان على المفاوضات العبثية بالرعاية الأمريكية المنفردة، فهي لم تحقق على مدى عشرين عاماً إلاّ منح الفرص للمحتل الإسرائيلي في إقامة المزيد من الاستيطان وتغيير معالم الأرض، التي من المفروض أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية، أم أن هذه القيادة ستواصل تجاهل كل هذه التطورات، ومعها إرادة الغالبية الكبرى من الشعب الفلسطيني في هذا الشأن المصيري؟!

 

العدد 1105 - 01/5/2024