أسباب فشل «النموذج التركي» في البلدان العربية

مثّلت تركيا قبل موجة (الربيع العربي) لشعوب المنطقة، النموذج البراق لدولة إسلامية حققت الاستقرار السياسي عن طريق التداول السلمي للسلطة عبر صندوق الاقتراع، والانفتاح على العالم والنهضة الاقتصادية والعمرانية. ومما ساعد على صعود (النموذج التركي) وساهم في ترسيخ صورة تركيا في المنطقة، غيابُ النموذج العربي، الأمر الذي دفع المواطنين العرب إلى عقد المقارنات بين الدول الإقليمية غير العربية، وكان من نتيجة المقارنة أن (النموذج الإسرائيلي) غير مطروح من الأساس، لأسباب أصبحت من بديهيات الثقافة السياسية العربية، في حين كان (نموذج إيران) مضطرب إلى حد كبير، وزاد الاضطراب بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام ،2003 والتمدد الإيراني نحو المنطقة وظهور الفالق السنّي  الشيعي، وما ترتب عليه من اصطفاف شرائح عربية واسعة، في مواجهة ما أعُتبر مشروعاً إيرانياً ذا صبغة طائفية وقومية يُهدد المنطقة. هذا الأمر زاد من وهج الصورة التركية، باعتبارها أقرب دول الجوار إلى العرب، وهو ما يعني أن (النموذج التركي) في جوهره مثّل الفردوس المفقود في المخيال الجمعي العربي.

وفي المقابل، وعى راسمو السياسة التركية قدرة قوتهم الناعمة ووهج نموذجهم في التغلغل إلى داخل المجتمعات العربية.. فعن طريق المسلسلات التركية المدبلجة إلى اللغة العربية عمد الأتراك إلى نشر الثقافة ونمط الحياة التركية في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لينتقلوا بعد ذلك إلى الخطوة التالية، التي تجعل من البلدان العربية المكان المناسب لتصريف منتجاتهم، والأرضية المثلى لاستثماراتهم التجارية والصناعية.. في الوقت نفسه تقوم الحكومة التركية بامتصاص فائض الرأسمال العربي في تطوير بناها التحتية وتحديثها، ولتكون نتيجة سياستهم غير المباشرة هذه، استخدام العرب ورقة ضغط في مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوربي، فالغرب الذي لم يقبل بانضمام دولة علمانية بهوية إسلامية كما تعرّف تركيا نفسها، سيقبلها مرغماً بعد أن تكون قد رسّخت أقدامها في الشرق كقوة إقليمية ذات عمق إسلامي.. لكن لماذا فشلت تركيا في تحقيق أهدافها في المنطقة؟

قد تكون (عقدة الدور) هي أحد أهم أسباب فشل السياسة التركية في المنطقة، ذلك أن أنقرة حاولت أن تُمسك بأوراق وملفات، وعملت على خلق أزمات وبؤر توتر، بهدف التأثير على القرارات السياسية لدول الجوار الإقليمي كخطوة أولى، ولتعمل على خلخلة أمنهم واستقرارهم كخطوة ثانية، كي تضمن السيطرة على توجهاتهم السياسية على صعيد السياسة الخارجية والداخلية.. وما ساعد تركيا على ممارسة هذه اللعبة السياسية الخطرة، امتلاكها الكثافة السكانية والقدرة العسكرية والثروة المالية، إضافة إلى موقعها الاستراتيجي الذي تحاول أن تستغله لزيادة نفوذها لدى دول المنطقة، وما ساعد على تنفيذ هذه السياسة وجود بيئة اجتماعية محيطة يمكن تأليب مكوناتها السكانية (عرقية، دينية، أيديولوجية، مذهبية، طائفية) ضد بعضها البعض.. وترافق ذلك بالشعور بضرورة تصدير (ثورة أو نموذج) انطلاقاً من إيمان راسخ بامتلاك الحلول الناجعة لمشاكل شعوب المنطقة الأخرى، كي تعمل بعد تمكين نموذجها من مصادرة قرارات جيرانها وإلحاقهم بطموحاتها ومغامراتها.

أما السبب الثاني فيعود إلى أن سياسة الأحلاف المفتوحة والسقوف الاستراتيجية اللينة المعروفة باسم سياسة (صفر مشاكل) التي تبنتها أنقرة خلال فترة ما قبل (الربيع العربي) لم يعد لها وجود بعد التغيرات التي حدثت في المنطقة، إذ إن اللعب على المتناقضات، وفتح قنوات اتصال مع جميع الأطراف، فرض على السياسة التركية في نهاية الأمر خيارات صعبة وهامشاً ضيقاً للمناورة، الأمر الذي بات معه طموح تركيا بالتحول إلى دولة إقليمية فاعلة موضع شك كبير.

ثالث هذه الأسباب هو تعميق أنقرة لعلاقاتها مع تيارات الإسلام السياسي في المنطقة خلال فترة مخاض عسير يمر بها الشرق الأوسط، تتم فيها إعادة البحث عن الهوية والذات، فغالبية سكان المنطقة يسعون إلى إعادة البحث عن هوية تُميّزهم بعد عقود من الموات الفكري والسياسي، والهوية هي القاسم الأكبر الذي يحفّز الجماعات للتعبير عن التمايز فيما بينها.. وعملية التحالف هذه هدفت إلى إعادة طرح رؤية الذات ك(مسلم)، كمقدمة لحل أزمة الهوية بطريقة تسمح لأنقرة بتمرير مشروعها دون معارضة من شعوب المنطقة، الأمر الذي أثبت فشله بعد ثورة 30حزيران 2013 في مصر، ذلك أن تعدد روافد الهوية الشخصية لدى سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يمكن التعبير عنها في عبارة (مسلمون ومسيحيون وأقليات أخرى، وسطيون دينياً، ذوو مزاج ليبرالي حياتياً، تحمل أغلبيتهم النسبية شعوراً قومياً عربياً بعمق إسلامي متسامح نوعاً ما مع باقي القوميات والأقليات)، فإنه يصعب تصور وجود تيار سياسي ديني قادر على التعبير عن هذه الثلاثية بما تحمله من تقابل وتضاد، أو أن تفرض عليهم عقيدة سياسية ذات بُعد ديني ومذهبي.

ومما سبق نرى أن تركيا وجدت نفسها خارج السلطة في مصر، وخارج اللعبة في الشرق الأوسط، ذلك أن تركيا لم تفقد فقط حليفاً أساسياً في تنفيذ مخططها في المنطقة بسقوط الإخوان المسلمين في مصر، بل فقدت الركيزة الأساسية التي كانت تخطط لتكون مصدر إشعاع تركي يعم المنطقة، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد تهاوت علاقة تركيا مع الدول التي دعمت ثورة 30 حزيران في مصر، وهي جميع دول الخليج، ما عدا قطر التي مع ذلك اعترفت بالنظام الجديد في اليوم التالي، وإن استمرت بدعم الإخوان في السّر.. ومع خسارة أنقرة علاقاتها بمصر دولة وشعباً، واهتزاز سلطة الإخوان المسلمين في تونس، باتت تركيا دولة معزولة وبلا أي حليف لها في المنطقة.

آخر هذه الأسباب هو الأزمة السورية، فعند بداية حركة الاحتجاجات في سورية، حاولت أنقرة إظهار نفسها بمظهر الناصح الواعظ لدمشق عبر تقديم النصائح واقتراح الحلول، كي تتجاوز الأزمة بسرعة وبأقل الخسائر الممكنة.. ورويداً رويداً بدأت أنقرة تفقد العامل الإيجابي الذي يفترض أن يكون دور الوسيط، وأخذت تنحو شيئاً فشيئاً لتكون مع طرف ضد طرف آخر، مع تطور الاحتجاجات من تظاهرات حاولت أن تكون سلمية إلى صراع مسلّح يستهدف إسقاط الدولة السورية. وعندما قررت الانحياز لطرف ضد آخر في الأزمة السورية، أخطأت قراءة الواقع السياسي والاجتماعي السوري، فلم ترَ فيه إلا أكثرية وأقلية من الناحية المذهبية الدينية، ومن هذا المنطلق توقعت أن الأزمة لن تطول، وأن النظام في دمشق آيل إلى السقوط خلال أيامٍ معدودات.

الخطأ في قراءة الواقع السياسي السوري وفشله في توقع مسار الحراك الشعبي المطالب بالإصلاحات، والذي تحول إلى تمرد مسلح على الدولة، وتورط حكومة حزب الحرية والعدالة فيه، جعل الخطاب الرسمي التركي يعود إلى فترة الدولة العثمانية، موزعاً صكوك الغفران على أفراد، ومقرراً صحة إيمان أشخاص، باستخدام خطاب ناري يداعب العاطفة الدينية والغرائز المذهبية.. خسرت تركيا سورية الرسمية ولم تكسب سورية الشعبية التي بدأت قطاعات واسعة تتوجس من النوايا المبيتة للحكومة التركية الحالية تجاهها. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فمقاربة الحكومة التركية الخاطئة للحدث السوري وتّرت علاقات تركيا مع محيطها الإقليمي، وخصوصاً في القضية الأرمنية والمشكلة القبرصية والملف الكردي ذلك الجرح النازف في الجسد التركي، وما فاقم الأوضاع سوءاً تحوّلُ الأزمة السورية شيئاً فشيئاً إلى (حرب طائفية) وتّرت العلاقات الدبلوماسية بين بغداد وطهران وموسكو من جهة، وأنقرة من جهة أخرى، نتيجة خطابات أردوغان التي أثارت الأحقاد الطائفية ولعبت على أوتار المشاعر المذهبية.

حاول حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان طرح نفسه أمام أوربا والعالم نموذجاً لائتلاف الديمقراطية والإسلام، في نظام يلتزم (العلمانية) بمفهومها الأوربي، وينفذ تعاليم منتقاة من العقيدة الإسلامية حسب مفهومه الخاص للإسلام، وقد استطاع الحزب في الوقت نفسه أن يقدم نفسه أمام شعوب العالم العربي والدول الإسلامية في آسيا الوسطى التي ظهرت بعد تفكك الاتحاد السوفييتيي، بفضل قوته الناعمة، نموذجاً لنظام إسلامي عصري، ونموذجاً لدولة شرق أوسطية تمكّنت من أن تخاطب إسرائيل من موقع متساو نوعاً ما، وأن يكون لها رأي مختلف عن رأي الولايات المتحدة في بعض الملفات السياسية في المنطقة، كالقضية الفلسطينية، الأمر الذي دفع بعض الحالمين إلى الجنوح في الخيال الجامح بعيداً، ليتصوروا أردوغان، ويتخيل نفسه، ممتطياً حصانه وشاهراً سيفه، وقائداً قواته العسكرية من أنقرة إلى القدس ليدخلها فاتحاً ومحرراً.

هذا الأمر جعل السياسة التركية تتخلى عن استخدام قوتها الناعمة تجاه المنطقة منذ ذلك الوقت، وتنحرف عن سياسة (صفر مشاكل) التي تنص على (أخذ مسافة واحدة من الجميع)، أي رفض الانحياز إلى طرف ضد آخر في النزاعات الإقليمية.. وإذا كانت مشاكل السياسة الخارجية التركية في الشرق الأوسط لا مفر منها، فإن عزلتها في أماكن أخرى كانت من صنع يديها، ونتيجة لذلك تواجه أنقرة اليوم خطر العودة إلى عقلية التسعينيات، عندما كان التوتر مع البلدان العربية والأوربية محتدماً، وكانت نظريات المؤامرة تسمم العقلية السياسية للأتراك، الذين يؤمنون بالمثل القائل: (لا صديق للتركي غير التركي) اقتناعاً منهم بأن بلدهم يخضع لحصار ومؤامرة تستهدف تفتيته. وعلى ما يبدو، فإن نجاح أردوغان الوحيد تمثل في نقل بلده من سياسة (صفر مشاكل) إلى مشاكل لا حدود لها داخلياً وخارجياً.

العدد 1104 - 24/4/2024