بعد ثلاث سنوات على التغيير.. مصر إلى أين؟

احتفل الشعب المصري، أو غالبيته الساحقة، قبل أيام قليلة، بالذكرى الثالثة لثورة 25 يناير (كانون الثاني)، التي أطاحت عام 2011 بالرئيس حسني مبارك وأركان حكمه، وأعادت أجواء الاحتفالات التي عمت المدن المصرية، وبخاصة العاصمة القاهرة، وساحاتها (الرمزية): التحرير والاستقلال.. إلخ، المظاهرات المليونية التي أسقطت النظام السابق، كما أعادت إلى الذاكرة المظاهرات المليونية هذه، التي رفضت نظام الأخونة، وأسقطت الرئيس المعزول محمد مرسي في 30 حزيران عام 2013 بعد أقل من عام على توليه مهامه.

وعشية هذه الاحتفالات، والتزاماً بتعهدات لجنة الخمسين حول صياغة مشروع دستور (لا إخواني)، عُرض للاستفتاء مشروع الدستور الجديد، الذي شاركت في صياغته مختلف القوى والرموز الوطنية والديمقراطية وبعض التيارات الدينية أيضاً (الرافضة لنظام الأخونة)، فيما رفضت حركة الإخوان وحدها المشاركة في مشروع صياغته، ودعت إلى مقاطعة الاستفتاء الشعبي حوله. نشير هنا إلى أن نتائج الاستفتاء الذي جرى يومي 14و15 كانون الثاني، أظهرت مشاركة 38% من الناخبين المسجلين، مقارنة بـ32% شاركوا في الانتخابات الرئاسية عام 2012 وأكدت النتائج تأييد 98% من الناخبين لمشروع الدستور الجديد، مقابل 51% حصل عليها مرسي في انتخابات عام 2012.

وتؤكد هذه النتائج وهذه المشاركة الواسعة سقوطاً آخر مدوياً لنظام (الأخونة)، ودعوات حركة الإخوان المسلمين إلى مقاطعة الاستفتاء.. كما نشير هنا إلى أن هذه الدعوات إلى المقاطعة قد ترافقت مع تصعيد عمليات العنف المسلح والتفجيرات والاعتداءات على مؤسسات الدولة وهيئاتها (وبضمنها العلمية، وخاصة جامعة الأزهر وغيرها)، التي تطلبت من الحكومة المؤقتة والرئيس المؤقت عدلي منصور، ولجنة القضاء المصرية المستقلة إصدار قرار يصنف حركة الإخوان المسلمين بأنها منظمة إرهابية محظورة.. واستمرت هذه الحركة في عملياتها العسكرية الإرهابية تحت لافتات عديدة (منظمة بيت المقدس.. إلخ) وبالتزامن مع الاحتفال بالذكرى الثالثة للثورة، إذ شهدت القاهرة وحدها 4 عمليات تفجيرية (سيارات مفخخة)، استهدف إحداها مبنى الأمن الوطني في القاهرة، وذهب ضحيتها عشرات القتلى والجرحى، وشهدت العديد من المدن المصرية عمليات إرهابية، الأمر الذي يؤكد إصرار (الإخوانيين) على الاستمرار في دوامة العنف وزيادة تبعاته المادية والبشرية من جهة، ومحاولة زعزعة الأمن والاستقرار الوطن والفردي وتضخيم تداعياتها من جهة ثانية.

وفي الوقت الذي فشلت فيه حركة الإخوان المسلمين المصرية (وهي تمثل مركز الحركة في العالم العربي) في (أخونة) الدولة المصرية، رغم سيطرتها وانفرادها، على مدى عام كامل، بمقاليد السلطة رئاسة، وحكومة، وبرلماناً، ولجنة دستور.. إلخ (لأسباب عديدة تحتاج إلى بحث منفصل)، خلافاً لتعهداتها، قبيل ثورة 25 كانون الثاني وخلالها بالعمل على تكريس التعددية والديمقراطية.. إلخ، ومن ذلك فشلها في محاولة أخونة مؤسستي الإعلام والقضاء المستقلتين والعريقتين، وتدجين المؤسسة العسكرية المصرية، فإن التطورات التي أفرزت ثورة 30 حزيران 2013 الرافضة للأخونة والانفراد، وكذلك نتائج الاستفتاء الشعبي على الدستور، تؤكد مرة أخرى فشل سياسة الأخونة، وسقوطً آخر استراتيجياً للحركة وسياستها ونهجها.

هذا النهج العنفي المخالف لأبسط قواعد وأبجديات الديمقراطية الشعبية وتجلياتها، في العودة إلى الشارع، وإلى صناديق الاقتراع واحترام نتائجه، يؤكد مرة أخرى العقلية (الإخوانية) الانفرادية الاستبدادية أولاً، ويؤكد معارضة مواقف غالبية القوى والرموز الوطنية والديمقراطية والعلمانية لهذا النهج ثانياً، فضلاً عن مغزى فشل حركة الإخوان في حكم مصر لأكثر من شهور قليلة وانعكاساته، بعد أن ظلت في (المعارضة) أكثر من 83 عاماً، بوصفها إحدى أعرق الحركات السياسية الدينية، ولهذا دلالته ومغزاه أيضاً.

الاحتفالات المليونية التي شهدتها مصر في الذكرى الثالثة لسقوط مبارك، والتي جاءت بعيد الاستفتاء الشعبي الإيجابي على الدستور المصري الجديد، تؤكد حيوية الشعب المصري من جهة، ورفضه من جهة أخرى أن يحل محل نظام ديكتاتوري شمولي نظام ديني- متطرف أكثر شمولية وانفراداً واستبداداً.

ورغم محاولات الإخوان الاستمرار بمسلسل العنف والتفجيرات وزعزعة الأمن والاستقرار الوطني والفردي، الذي يؤثر بأشكال وصيغ مختلفة على الاقتصاد المصري، وبخاصة على قطاع السياحة (أحد أهم قطاعات الاقتصاد المصري)، فإن التطورات المتلاحقة الإيجابية تؤشر أيضاً إلى صعوبة العودة إلى الوراء، وإلى حجم المهمات التي تنتظر مصر الجديدة ثانياً.

كما أن هذا النهج الإخواني في الكثير من جوانبه يؤشر إلى محاولة تكرار سيناريو الأزمة السورية الراهنة، عنفاً واغتيالات وتفجيرات واعتداءات على مؤسسات الدولة وهيئاتها، وتخريب بناها التحتية ما أمكن ذلك، والاستفادة القصوى من دعم فروع حركة الإخوان المسلمين في المنطقة، ومن تدخلات وضغوط العديد من مشيخات دول الخليج الساعية إلى تقزيم دور مصر وتحديد طبيعة سياستها، وبخاصة الخارجية، ما بعد الإقرار (النظري)، لاعتبارات عديدة، بسقوط نظام الأخونة.

نشير هنا إلى هذه اللوحة المصرية القائمة، وبخاصة التفاهم والتوافق في إطار لجنة الخمسين الخاصة بالدستور، وضرورة مواصلة إيجاد صيغة تعاون وتنسيق بين القوى والرموز الوطنية والديمقراطية الحية، التي فشلت، للأسف، في التوافق على مرشح رئاسي في مواجهة مرسي عام ،2012 وساهمت إلى جانب العديد من الأسباب الأخرى الداخلية والإقليمية في نجاحه آنذاك.

كما نشير إلى أن هذا الواقع القائم، وملاحظاتنا تجاهه، يؤكد التفاف الشارع المصري وغالبية قواه الحية حول  المؤسسة العسكرية الوطنية المصرية، التي ساهمت في حدود ليست قليلة، في لجم سياسة الإخوان والأخونة، وفي المساعدة في تصحيح مسار ثورة 25 كانون الثاني، عبر موقفها الوطني في 30 حزيران عام ،2013 ودور الفريق عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع وهيئة أركانه في هذا السياق أيضاً.

ورغم المطالبة الشعبية الواسعة، ودعم المؤسسة العسكرية والكثير من الأحزاب والقوى الوطنية لترشح الفريق السيسي، وتحديد الرئيس المؤقت فترة 30-90 يوماً للترشيح، فإنه حتى تاريخه لم يحدد بعد موقفه من المشاركة في هذه الانتخابات المقررة أولياً في حزيران القادم.

وعلى الرغم من أن السيسي لم يحدد موقفه من الترشح بعد، حتى تاريخه على الأقل، فإنه يفترض بالقوى الوطنية والديمقراطية والعلمانية وحركات شباب الثورة، أن تتجاوز تجربة الانتخابات الرئاسية عام ،2012 وأن تشارك بتفاهمات ما في الانتخابات البرلمانية القادمة، التي ستعقب الانتخابات الرئاسية (وفق تصريح الرئيس المؤقت عدلي منصور) للوصول إلى هيئة تشريعية – برلمان تعددي، تتمثل فيها كل القوى والرموز الوطنية والديمقراطية التي شاركت بفعالية في ثورة 25 كانون الثاني 2011 وفي تصحيح مسارها في 30 حزيران عام ،2013 وهي المهمة التي لا تقل أهمية عن انتخابات الرئاسة القادمة، لأنها ببساطة ستفرز برلماناً مصرياً تعددياً مختلفاً عن برلمانات مصر السابقة خلال العقود الماضية.. كما يفترض بهذه المتغيرات والتطورات الإيجابية التي تشهدها مصر، رغم استمرار (التشويش) الإخواني، إعادة النظر بمواقف وعلاقات مصر العربية والإقليمية، وفي حدود ليست أقل، الدولية أيضاً (وهذا ما نلمس مؤشراته في العديد من المواقف والمحطات)، وفي المقدمة منها الموقف من الأزمة السورية، والحل السياسي لها من جهة، والإسراع في إعادة العلاقات الدبلوماسية والتنسيق بين القاهرة ودمشق، التي (جمّدها) وأوقفها نظام (الأخونة)، وانسحاب مصر الجديدة مما يسمى زوراً بـ(أصدقاء سورية).

لقد خطت مصر العديد من الخطوات الهامة على طريق تكريس التعددية والديمقراطية الشعبية، ومازال أمامها الكثير من المهمات الوطنية والإقليمية والدولية أيضاً، التي ستحددها طبيعة التطورات الإيجابية الجارية في مصر حالياً، وانعكاساتها المباشرة على موازين القوى العربية – العربية أساساً، وتداعياتها إقليمياً ودولياً، مع السقوط المدوي الثاني للأخونة في مصر، وهذا ما سنرى مؤشراته، التي بدأت عملياً راهناً، وستعززها المواقف المصرية الوطنية في الشهور القليلة القادمة تحديداً.

العدد 1105 - 01/5/2024