«حب الوطن والشعب»… هذه التجربة الرائعة!

كان المكافح عبد الجليل بحبوح محباً دائماً للثقافة ومتابعاً لنشاطاتها في المراكز الثقافية العربية والأجنبية، ووجهاً مألوفاً في الحفلات والمحاضرات والندوات على اختلاف مواضيعها وتباين وتعدد القائمين فيها وعليها. وأذكر هنا أنه في عام 1970 وفي اليوم ذاته الذي اعتُقل فيه، كان ينوي حضور حفل موسيقي للعزف على البيانو كنت قد دعوته إليه.

عرفته من بعيد بدءاً من عام ،1968 إذ كنت يومذاك منظماً في اتحاد الشباب الديمقراطي حين كان أبا فياض مع رفيقة دربه أم فياض رمزين من رموز الحركة التقدمية في بلدنا. وبعد انقطاعي – بداية بسبب سفري للدراسة عن تلك الأجواء النشيطة والحيوية والواعدة، عدت بعد عشرات السنين إلى ذلك المنزل المضياف صديقاً مقرباً يعد نفسه واحداً من تلك العائلة، وإن كان الرابط بيننا في السابق (عقائدياً)، فإنه أصبح لاحقاً اجتماعياً أيضاً وشخصياً. وإن كنت أدين بالعرفان لمن (نشر فكر الاشتراكية العلمية، مما ساعد على رفع الوعي في أوساط الجماهير الشعبية)(1) فإنني محظوظ في الوقت عينه بالتعرف إلى ذلك المناضل وتلك المناضلة اللذين أغنيا عالمي الداخلي.. لقد جعلتهما (بيت أسراري) وقبلة أتجه إليها لأبث مكنون نفسي وأشارك بهمومي وأماني وأحلامي.

إن سعادة الإنسان هي هدفنا في يومنا وفي مستقبلنا فيما نتركه من عمل صالح، و(سعادة الآخرين لا تتم إلا بنا، وسعادتنا لا تكتمل إلا بسعادتهم). وما تركه الصديق عبد الجليل بحبوح هو عمل صالح، إن كان يكافح في سبيل العدالة الاجتماعية، إن كان يسعى إلى الإصلاح في حزبه، إن كان على رأس عمله في وكالة (سانا) وقبلها في التربية والتعليم، إن كان في بيته مع زوجته وأولاده، إن كان بين أحفاده، أو كان بين رفاقه وأهله وأصدقائه وجيرانه، وفي إطار فكر ماركسي حر منفتح، كان هذا البعد الإنساني مضيئاً وسيبقى مضيئاً في وجداننا.

لقد أخذت ظروفنا الصعبة والتعقيدات الهائلة التي وُجدنا فيها الكثير من وقتنا وعقلنا وروحنا، ولم تكن دائماً ملائمة لمن أراد وأصر على العمل البنّاء المجدي، ومن خاض مثل هذه التجربة المرّة، إن كانت حزبية أو غير حزبية أو هذه وتلك.. فقد (وهب) جزءاً كبيراً من حياته (قرباناً) للمحاولات المتكررة، مرة تلو الأخرى، في سبيل الوصول إلى شيء ما، ولو قليل، يتناسب مع الفكرة السامية القائلة بأن (حب الوطن والشعب هو (تجربة رائعة)! وإنها لجرأة ما بعدها جرأة، أن يظل الواحد منا مؤمناً بعقيدته، رغم ما يرى حوله من تراجع لدورها، تحت ظروف همجية تلجم انطلاقها وتحطّ من قدرها.. إنها جرأة ما بعدها جرأة، أن يبقى الواحد منا مثابراً على زرع البذرة الطيبة عملاً وقولاً، وذلك في ظلال القساوة والجلف والتعامي والتناسي الذين ينتظرونه، إذا ما أصر على البقاء في هذا الطريق.

إنه لشيء عظيم أن يبقى الإنسان- على مدى حياته- منتصراً للحق، لا خوّافاً ولا متزلفاً ولا وصولياً، وليس كل بني بشر إنسان! فوداعاً أيها الإنسان.. أيها الصلب الصلد.. الرقيق الحنون (فأما الزّبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)(2).

 

 

(1) من المقدمة ذاتها.

(2) من سورة الرعد.

العدد 1105 - 01/5/2024