اتفاق الإطار الأمريكي المقترح.. مخاطره والموقف تجاهه

يعود وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى المنطقة مجدداً، في جولة جديدة تختلف عن سابقاتها، ويتوقع منها الأمريكيون على الأقل، أن تكون مفصلية، إذ يفترض بهذه الجولة أن يتلقى كيري من الرئيس الفلسطيني محمود عباس ومن بنيامين نتنياهو أجوبة على اتفاق الإطار الذي قدمه في جولته الأخيرة.

بداية لابد من الإشارة إلى أن جولة كيري الـ11 خلافاً لجولاته العشر السابقة، وصفت بالمكوكية، إذ التقى عباس عدة مرات، كذلك نتنياهو، ومدد زيارته 48 ساعة بهدف الحصول على أجوبة أولية على اقتراحاته، وأعادت إلى الذاكرة جولات وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر المكوكية أيضاً.

كما تجدر الإشارة هنا أيضاً إلى كثرة جولات كيري، إلى كل من الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل، منذ توليه منصبه وزيراً للخارجية، مقارنة بخمس جولات فقط قامت بها هيلاري كلينتون خلال توليها مهامها وزيرة للخارجية.

كيري الذي يسجل له نجاحه في استئناف المباحثات المباشرة على مستوى الوفدين المفاوضين، وفي إجراء مشاورات ثنائية منفردة مع عباس ونتنياهو، كان أساساً قد وضع لتحركه السياسي هذا سقفاً زمنياً حدده ب(تسعة أشهر تكفي -وفق وجهة نظره- لحل جميع القضايا الخلافية – التفاوضية على هذا المسار.. أي قضايا الحل النهائي).. وهذا أقنع جزءاً من القيادة الفلسطينية بالعودة إلى المباحثات بصيغها المختلفة، بعد انقطاع (رسمي) دام أكثر من ثلاث سنوات.

ومع (غوص) كيري في تعقيدات المسار التفاوضي الفلسطيني – الإسرائيلي، بدأ بالتراجع عملياً عن تعهداته الأمنية من جهة، وعن آليات قضايا الحل النهائي من جهة ثانية.. وهذا ما يشكل صدمة أولى للفريق الفلسطيني المفاوض (قدم استقالته قبل أسابيع للرئيس عباس). وازدادت الأمور تعقيداً عندما مهد كيري لاتفاق الإطار الذي طرحه مؤخراً، والذي يتضمن تنازلات هامة من الجانب الفلسطيني طبعاً، وتنازلات (تجميلية) من الجانب الإسرائيلي (تحت شعار ضرورة تقديم تنازلات مؤلمة من الجانبين).

اتفاق الإطار الأمريكي هذا بنقاطه التسع، وهي تستعيد أو تعيد صياغة اقتراحات سابقة، بدءاً من اقتراحات رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت عام ،2008 إلى اقتراحات الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون في كامب ديفيد قبل 13 عاماً، يتضمن:

* ضم إسرائيل 8,6% من أراضي الضفة الفلسطينية، تتمثل في الكتل الاستيطانية الكبرى الأربع (غوش عتصيون، معاليه أدوميم، جنعات زئيف، أريئيل)، فضلاً عن مستوطنات القدس الشرقية، مقابل إعادة 5,5 من الأراضي الفلسطينية التي تسيطر عليها إسرائيل (أراضي ال1948).

* إقامة طريق آمن بين غزة وجنوب الضفة (مدينة الخليل)، وليس رام الله العاصمة السياسية الفلسطينية الحالية (كما اقترح الرئيس عباس).. أي طريق قطارات سريع دون محطات.

* طريق خاص يربط بين رام الله وبيت لحم، التفافي يتجنب المرور في أراضي مستوطنة معاليه أدوميم.

* تقسيم القدس وفق خطة الرئيس كلينتون (رفضها آنذاك الرئيس الراحل ياسر عرفات). وتضم (الحوض المقدس) الذي يشمل المسجد الأقصى وحائط البراق، ويكون تحت إشراف دولي (الولايات المتحدة، الأردن، السعودية، إسرائيل، السلطة الفلسطينية).

* حل موضوع اللاجئين (يشكلون 65% من الشعب الفلسطيني) حسب اقتراح كلينتون أيضاً، من التوطين في كندا وأستراليا، وعودة جزء قليل جداً إلى أراضي 1948 (لم شمل عائلات).

* إخلاء جميع المستوطنين من الأغوار (منطقة الحدود الفلسطينية- الأردنية)، ووجود جنود أمريكيين على طول الحدود مع الأردن، ثم إنشاء معابر بين الأردن وفلسطين.

* استخدام إسرائيل والفلسطينيين للمجال الجوي فوق الضفة والقطاع، على أن لا يكون هناك وجود أمني إسرائيلي في الضفة الفلسطينية (لاحظ أن إسرائيل ومعها عدد واسع من الدول الغربية والولايات المتحدة، تطالب بدولة فلسطينية منزوعة السلاح).

* الاستمرار في نظام جباية الضرائب المعمول به حالياً من قبل إسرائيل على البضائع الواردة إلى الأراضي الفلسطينية، أو الصادرة منها، عبر الموانئ الإسرائيلية. وفيما يتعلق بالبند المتعلق بإخلاء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية، فإن 80% سيتم تجميعهم في الكتل الاستيطانية الأربع الكبرى (وفق البند الثاني)، وأن 20% أي نحو 8 آلاف مستوطن فقط عليهم إخلاء مستوطناتهم، أو البقاء في مجال الدولة الفلسطينية القادمة. وأرفق كيري في بنده التاسع من رؤيته هذه، بأنه ينتظر إرسال تحفظات أو تعليقات لا كثرة لقاءات وزيارات!

اتفاق الإطار الأمريكي المقترح في بنوده القديمة- الجديدة، يتناقض والتعهد الذي قدمه كيري بهدف استئناف المباحثات، كما يتعارض والاتفاقيات الثنائية السابقة، أوسلو وغيره (على علاتها ونواقصها)، ويؤسس لتعارضات جديدة فلسطينية – فلسطينية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية أيضاً والحركة الوطنية الفلسطينية عموماً. (يلاحظ أن هناك عدم (تصادم) حتى تاريخه بين الفريقين، المطالب بفرصة ال9 شهور ليثبت للعالم حقيقة الأوضاع القائمة، ومن يعطل عملياً الوصول إلى حل نهائي، والمعارض أساساً لاستئناف المفاوضات دون تعهدات وضمانات دولية. ونأمل أن لا يحدث ذلك انطلاقاً من المصلحة الوطنية العليا الفلسطينية، التي يفترض من الجميع احترامها.

إلا أن هذا الاتفاق – الإطار، الذي يتضمن تنازلات جوهرية فلسطينية، يؤجل حل مسألتي القدس واللاجئين وفق القرارات الدولية، ويراد منه أمريكياً دق إسفين في صفوف الفلسطينيين أولاً، وإظهارهم بأنهم المعطل للحل النهائي المقترح أمريكياً ثانياً، فضلاً عن مخاطره على مصير القضية الفلسطينية عموماً، وخاصة مسألة التوطين والتهجير للاجئين الفلسطينيين، وغيرها من العوامل المفصلية الأخرى التي تحتاج إلى بحث مفصل ومعمق.

نشير هنا إلى أن نتنياهو استبق جولة كيري ال12 بزيارة مفاجئة إلى الأردن، هي الأولى منذ عام، ولقائه الملك عبدالله الثاني، في محاولة إسرائيلية لإشراك الأردن في (عملية السلام) هذه، وفي نيل الموافقة على اتفاق الإطار الأمريكي المقترح، بوصف الأردن عنصراً أساسياً في قضايا الحل النهائي، وبخاصة (مسألتي الحدود واللاجئين). ورغم أن الزيارة جاءت بناء على طلب إسرائيلي، فإن تعقيدات الوضع الأردني والمتغيرات الجارية في المنطقة العربية وتبعاتها، دفعت بالأردن أو اضطرته إلى الإعلان رسمياً، على الأقل، أن علاقته محصورة بمسألة الحدود، وفي المفاوضات النهائية ب(مسألة اللاجئين)، وأنه لن يتدخل في قضايا الضفة الفلسطينية وإشكالياتها، ولن يكون طرفاً على طاولة المفاوضات الدائرة الحالية المباشرة، أو غير المباشرة راهناً.

وبانتظار جولة كيري ال،12 فإن الكثير من التفاعلات الفلسطينية – الفلسطينية، وعلاقاتها بدول الجوار، ستجري، بخاصة حول مصير مسألة اللاجئين والحدود والقدس بوصفها مدينة مقدسة، لا للفلسطينيين والعرب فحسب، وإنما للمسلمين والأديان الأخرى أيضاً.

خطورة اتفاق – الإطار الكيري، أنه يشكل مرة أخرى انحيازاً أمريكياً، ولو أقل تشدداً في (الظاهر) تجاه إسرائيل، وأنه يمثل تراجعاً أمريكياً جديداً عن وعوده، التي بدأ بها جولاته في المنطقة.. وهذا ما يجب على الفلسطينيين مراجعته وتقييمه والاستفادة منه أيضاً، بالإصرار على الحقوق الفلسطينية المقرة دولياً، وبترميم الحالة الفلسطينية (أي إنهاء الانقسام أولاً وتصحيح الحالة الفلسطينية القائمة) لمواجهة المخاطر القادمة أيضاً، وخاصة بعد أن حسم كيري توجهاته.

كما يتطلب من الحالة الفلسطينية العودة إلى المطالبة بدور فاعل للجنة الرباعية، وخاصة في ظل المتغيرات الدولية  الإيجابية التي بدأت تؤتي ثمارها مناطقياً (الأزمة السورية- الملف الإيراني.. إلخ) ودولياً أيضاً، وهذا ما يجب استثماره والتعاطي معه فلسطينياً بشكل أفضل وأكثر إيجابية. ونشير هنا خصوصاً إلى الانتقادات المتبادلة الأخيرة الأوربية – الإسرائيلية حول المستوطنات والسياسية الإسرائيلية الاحتلالية عموماً.

العدد 1105 - 01/5/2024