خطورة التحركات الأمريكية الأخيرة حول «المفاوضات» الفلسطينية

تتواصل المحاولات والجهود الأمريكية، وهدفها الوصول إلى (تهدئة) ما على المسار التفاوضي الفلسطيني- الإسرائيلي، لا إلى حلول لقضايا الوضع النهائية، خلال فترة زمنية محددة أمريكياً بتسعة شهور، تنتهي في أواخر شهر نيسان القادم، كما أشار إلى ذلك وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بوعوده الشفهية، في بداية جولاته إلى المنطقة، تمهيداً لاستئناف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية المتوقفة رسمياً منذ أكثر من ثلاث سنوات.. ورغم التباينات الفلسطينية – الفلسطينية حولها، في إطار منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، وفصائل العمل الوطني الفلسطيني عموماً، فإنها أظهرت (ارتقاء) في التعاطي الداخلي الحزبي – الشعبي الفلسطيني مع هذه التباينات وكيفية معالجتها (بين رافضين لها، وموافقين عليها، أو مضطرين للموافقة عليها أيضاً). وبالتالي تجنب الاحتكاك والتصادم بين الفصائل الفلسطينية، على اختلافها وتنوعها، والاحتكام بالمقابل إلى الشارع الفلسطيني وهيئاته وقواه ومؤسساته الوطنية من جهة، وإلى الثوابت الفلسطينية المشروعة وفق قرارات الأمم المتحدة من جهة أخرى.

لم يفاجئنا كيري عندما تقدم في جولتيه الأخيرتين بطلب تجديد الفترة المقترحة سابقاً، للاتفاق على الحل النهائي، من تسعة شهور إلى سنتين، خلافاً لتعهداته التي مهدت لاستئناف المفاوضات الثنائية آنذاك، كذلك طرحه اتفاق (الإطار) المجحف بالحقوق الوطنية الفلسطينية، و(المُغازل) أيضاً للشروط الإسرائيلية، ومنها تلك التي تتطلب تنازلات فلسطينية أساسية في إطار بحث قضايا الحل النهائي، وبخاصة مصير المستوطنات الكبرى الواقعة جغرافياً على امتداد الخط الأخضر (حدود 1967)، مصير القدس الشرقية المفترض أنها عاصمة الدولة الفلسطينية القادمة وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، وحتى للاتفاقيات الثنائية (على علاتها ونواقصها)، فضلاً عن مصير اللاجئين الفلسطينيين الذين يشكلون عملياً نحو 65% من مجموع الشعب الفلسطيني. ولا نغفل هنا طبيعة الدولة الفلسطينية القادمة، وفق الرؤية (الكيرية)  والإسرائيلية ضمناً، بوصفها دولة منقوصة السيادة أولاً، وتحت الوصاية الإسرائيلية- الأطلسية ثانياً، وعدم بسط سلطتها فعلياً وسيادياً على كامل أراضي فلسطين في حدود عام 1967 ثالثاً.

وتزداد الأمور خطورة على الصعيد الفلسطيني، لأنها تمس المسائل الوطنية الجوهرية التي لا يمكن ولا يستطيع أي مسؤول فلسطيني الموافقة عليها، وتؤشر إلى محاولة تسويق (مساومة) أمريكية جديدة على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة، بذريعة عدم المساهمة في إسقاط حكومة نتنياهو المتطرفة، وتالياً تجنب مجيء حكومة أكثر تطرفاً (وكأننا نحن المسؤولون عن تحول المجتمع الإسرائيلي نحو مزيد من التطرف والعنصرية).

ويؤكد هذا التوجه الأمريكي حجم الاستفادة الإسرائيلية الصافية من تبعات المتغيرات العربية السلبية الجارية منذ (ثورات الربيع العربي) وانتهاء (التوافق) العام العربي الرسمي على الأقل، حول القضية الفلسطينية بوصفها القضية المركزية للصراع العربي- الإسرائيلي.. كما أنه يترافق مع استمرار الاستيطان وتكثيفه بشكل لم تشهده المناطق المحتلة من قبل، والتي باتت تحمل مصطلحات تضليلية سياسية خادعة عنوانها (عطاءات) حكومية إسرائيلية، وليست توسيعاً للمستوطنات القائمة، وتلك التي هي قيد البناء أيضاً (لا يمكن عملياً حصرها، إذ إنها قرارات استيطانية شبه يومية، تسبق أو تتزامن أو تعقب زيارات كيري وبشكل شبه يومي تقريباً، حتى تاريخه، وآخرها (عطاءات) بناء أكثر من 498 وحدة استيطانية في القدس الشرقية وحدها). وكذلك الاستفادة الإسرائيلية الصافية من استمرار الانقسام في الساحة الفلسطينية وتكريسه، بدلاً من البحث عن حلول وطنية لإنهائه وتوحيد الصف الفلسطيني وطنياً وتفاوضياً.. هذا في ظل الإصرار الإسرائيلي على ضرورة حل قضية اللاجئين وفق مقترحات الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون (كامب ديفيد 2) ما بين توطين اللاجئين في أماكن وجودهم، أو ترحيل جزء منهم إلى بلدان لجوء وشتات أجنبية (كندا أو أستراليا  مثلاً)، ولمّ شمل بعض العائلات خلال العقود القادمة، الذين قد لا يعمرون حتى إنجاز هذه الرؤية الإسرائيلية – الأمريكية ضمناً، وإسكان بعضهم في أراض متبادلة في أجزاء من صحراء النقب، التي ستتبع وفق المقترحات الإسرائيلية للسلطة الفلسطينية، مقابل ضمّ المستوطنات الكبرى في الضفة الغربية لإسرائيل.

هذه الاقتراحات التي طرحها كيري في جولاته الأخيرة تؤكد مجدداً الرؤية الأمريكية الهادفة إلى الوصول إلى حلول جزئية، على حساب الفلسطينيين طبعاً، خلافاً لتعهداته حول إيجاد حلول لقضايا الوضع النهائي من جهة، ومحاولة لتهدئة الأوضاع في الساحة الفلسطينية، بدلاً من الحل النهائي للقضايا الخلافية الفلسطينية – الإسرائيلية من جهة ثانية. وتندرج هذه المحاولات الأمريكية حول الحلول الجزئية في سياق محاولات واشنطن الوصول إلى تهدئة لإشكاليات المنطقة عموماً، لا إيجاد حلول حلول لها: (الملف النووي الإيراني، الأزمة السورية، التطرف والإرهاب.. إلخ)، وهذا ما يسعى إليه كيري عملياً، وأكده في طلبه الموافقة على اتفاق (الإطار) الأمريكي على المسار الأمريكي.

نشير إلى هذه المؤشرات والمقترحات، ولا نغفل مسائل هامة جوهرها الموقف الفلسطيني الرسمي والشعبي المتمسك بضرورة تحديد ملامح حل القضايا الخلافية الأساسية وآلياتها، رغم التباينات الداخلية حول كيفية التعامل مع المقترحات الأمريكية وغيرها.. وهذا ما أكدته مواقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس وتصريحاته الأخيرة، بعد جولة كيري ومقترحه حول اتفاق (الإطار) أولاً، كذلك مواقف فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل العمل الوطني الفلسطيني ثانياً.. فضلاً عن موقف الشارع الفلسطيني الرافض لهذه المقترحات (التهدئة) الأمريكية للحالة القائمة حالياً، والتي هي بمجموعها محاولة أمريكية -(غربية) إسرائيلية تسعى إلى تجنب إمكانية حدوث انتفاضة فلسطينية ثالثة تقلب الطاولة على الجميع، أمريكيين وإسرائيليين و(غربيين) ومستعربين أيضاً.

في الوقت الذي أدرجت فيه تطورات المنطقة ومتغيراتها، وفي حدود ليست أقل، الانشغال العالمي بها ونتائجها الآنية والمستقبلية، في أواخر سلم المهمات والنشاطات الدولية حول حل القضية الفلسطينية المستمرة منذ أكثر من ستة عقود ونيف.

وتتجاهل الولايات المتحدة ومعها حلفاؤها الغربيون والمستعربون، أن جوهر إشكالية منطقة الشرق الأوسط وتداعياتها، تتلخص في الصراع العربي – الإسرائيلي، وفي الصدارة منه القضية المركزية فلسطين.. كذلك التجميد العملي لعمل اللجنة الرباعية الخاصة بهذه القضية (روسيا، الولايات المتحدة، الاتحاد الأوربي، الأمم المتحدة) التي لم يعد المتابعون لها يتذكرون آخر اجتماع عقدته بشأن هذه القضية وكيفية تحريكها خطوة نحو إيجاد حلول (متوازنة) لها.

هذا في الوقت الذي مهّد فيه الاعتراف بدولة فلسطين في الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 29/11/2012 وعضويتها في هذه المرجعية الدولية الأساسية، الطريق للانضمام إلى هيئاتها ومؤسساتها الأخرى (محكمة العدل الدولية، محكمة الجنايات، مجلس حقوق الإنسان.. إلخ) والذي بات الانضمام إليها ضرورياً للفلسطينيين، بعد أن عطلته مقترحات كيري التي لم تثمر عن (تهدئة) وإنما عن مباحثات لا طائل منها، متزامنة ومترافقة مع تضخم غول الاستيطان وتبعاته الخطيرة. وهذا ما يجب على القيادة الفلسطينية مراجعته وتقييمه، والإسراع بإنجاز الخطوات الضرورية المتعلقة به، وخاصة بعد أن اتضحت أضاليل مقترحات كيري وخطورتها، وإطالة أمد المباحثات التي لا جدوى منها، كما تؤكد الشهور القليلة الماضية، ومشروع اتفاق (الإطار) نفسه، وهذا رد وطني فلسطيني يستند في قوته ومشروعيته إلى القرارات الدولية، وإلى التململ الجاري في الأوساط الدولية، وخشية إسرائيل من اتساع المقاطعة الأكاديمية الأوربية – الأمريكية للأكاديميات الإسرائيلية، والمقاطعة الأوربية أيضاً للمنتجات الإسرائيلية (المستوطنات) الذي يحتاج تطويره إلى خطوات فلسطينية (جريئة) ترفض المراوغة الأمريكية من جهة، والمناورات والاستيطان الإسرائيلي من جهة أخرى.

العدد 1105 - 01/5/2024