التحركات المعادية للثورة البوليفارية

تمر فنزويلا بأزمة مستمرة منذ عدة أشهر، فهي تعيش تجاذباً حاداً بين قطبين سياسيين واجتماعيين متمايزين، هما معارضة، تجمع ما بين البرجوازية المسيطرة على وسائل الإنتاج وبعض وسائل الإعلام المستقلة وبعض عناصر الطبقة الوسطى التي تضررت مصالحها نتيجة الإصلاحات التي قام بها الرئيس الراحل لفنزويلا هوغو شافيز، من جهة. والمدافعون عن إرث تشافيز في الجيش والجماهير الفقيرة، في الجهة المقابلة. هذا من حيث الشكل، أما من حيث المضمون فهي تشكل عودة قوية للولايات المتحدة الأمريكية، في محاولة لترتيب الأوضاع السياسية والاقتصادية في المنطقة التي تعتبرها (حديقتها الخلفية).

ما آلت إليه الأمور في فنزويلا الناهضة لم يأت بكبسة زر بل جاء نتيجة عمليات تراكمية دشنتها كوبا بقيادة فيديل كاسترو الذي صمد في وجه الإعصار الأمريكي عشرات السنين تخللتها عمليات كان من أبرزها عملية (خليج الخنازير) التي انتهت بفشل ذريع لواشنطن.

واكتملت مع مجيء هوغو تشافيز إلى سدة الرئاسة الفنزولية حاملاً جملةً من الأطروحات والمبادئ والآراء تفاعل معها الشارع الفنزولي ودعمها، وكان سنده الوحيد في التصدي لمحاولة الانقلاب التي تعرض لها وأعاده إلى الحكم معززاً مكرماً. وجدد الثقة في مشروعه الرامي على تأسيس الجمهورية الثانية التي ستضع بلاده على الخارطة السياسية الدولية، دولة محبة للسلام وتسعى إلى تحقيق العدل وترفض الهيمنة الإمبريالية وتستطيع عقد التحالفات العادلة مع الآخرين، دون المساس بكرامتها أو التفريط بسيادتها.

ولم يقتصر شافيز في (ثورته البولفارية)، نسبةً إلى سيمون بولفار محرر أمريكا الجنوبية من الاستعمار الإسباني في القرن التاسع عشر، على الشأن الداخلي، فقد أعلن عن سياسة خارجية تقوم على التحالف مع كوبا وغيرها من الأنظمة ذات التوجه اليساري في أمريكا الجنوبية، وتحاول التنسيق المستمر بين أعضاء أوبك، كما لا تتحاشى نقد السياسات الأمريكية، الأمر الذي لم يرق لواشنطن.

فالسياسة التي اعتمدتها أمريكا اللاتينية والتي تقوم على اعتبار أن الأمن القومي لدول القارة جزء لا يتجزأ، والاتفاق على التكامل فيما بينهم بحيث يدعم القوي الضعيف ويقف الغني مع الفقير، ويتم التخطيط لتحقيق تنمية مستدامة تحفظ كرامة شعوب أمريكا اللاتينية وتصون أمنها وتمنع الطامعين من استغلال ثرواتها والهيمنة عليها، هذه السياسة لم ترق لواشنطن، لأنها رأت أن بلابلها أصبحت ممنوعة من التغريد في حدائق أمريكا اللاتينية.

اتسمت إصلاحات شافيز الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بكونها تجمع بين صفتين متناقضتين، فهي مقبولة جداً ومرفوضة جداً. فأنصار شافيز، وأغلبهم من الجيش والفقراء والطبقات المسحوقة من المجتمع الفنزويلي، يرغبون في الإصلاحات ويدافعون عنها في حين ترفضها المعارضة وعلى رأسها أرباب العمل والإعلام الليبرالي، وتسعى إلى محاربتها بكل الوسائل. فالإصلاحات الشافيزية إذن هي جوهر الأزمة الفنزويلية، ومستقبلها مرهون بتغلب أحد الطرفين على الآخر، طرف تكمن قوته في الجيش والجماهير وطرف آخر تكمن قوته في المال والإعلام والدعم الأمريكي.

وبين هذين الطرفين، أطلقت واشنطن وحوشها الكاسرة كي تزرع الإرهاب والموت وتؤلب الرأي العام في فنزويلا ضد حكومة الرئيس مادورو، بهدف رسم صورة لبلدٍ تسوده الفوضى، وتشويه سمعة الحكومة باستخدام وسائل الإعلام العالمية المنقادة، وتعزيز الاضطرابات المدنية، وحتى إثارة حرب أهلية، وفي نهاية المطاف، تهيئة الظروف لتدخل دولي وحتى القيام باحتلال، مستحضرة بذلك تجاربها السابقة في ليبيا وتونس وسورية محاولةً أن تتجاوز نقاط الضعف والتركيز على عوامل القوة في تجاربها السابقة.

واعتمدت من أجل ذلك عدة إجراءات:

* الحرب النقدية: وقد بدأت هذه الحرب بازدياد الطلب على العملة على نحو مفاجئ وواسع، والتلاعب بقيمة الدولار في السوق السوداء، والحصول على الدولارات بأسعار تفضيلية من الحكومة بموجب أسباب زائفة. ولكن الحكومة اتخذت الإجراءات الكفيلة بإحباط ذلك.

* افتعال ندرة السلع: وقد بدأ تسديد ضربة مزدوجة، مؤلفة من المغالاة الفاحشة في أسعار السلع، والندرة المصطنعة في المواد الغذائية، مع بدء الناس التسوق استعداداً لأعياد الميلاد. وقد شرع التجار الأثرياء في اكتناز السلع الأساسية، بوضعها داخل مستودعات خفيّة أو تهريبها إلى كولومبيا خلال عملية تهريب دقيقة التنظيم .

* الهجوم على شركة النفط الفنزويلية (بي دي في إس إيه): فقد دأبت الصحافة العالمية على الزعم، بأن هذه الشركة، تعاني الفشل لأنها تستخدم أرباحها في البرامج الاجتماعية بدلاً من إعادة استثمارها، وأن البلاد تستنزف بترولها، ولكن هذه الشركة، ما تزال من بين أرقى 5 شركات نفط في العالم، وفق مجلة (بتروليوم إنتلغنس ويكلي) ذات الكلمة النافذة.

إن الأزمة الفنزويلية مرشحة للاستمرار ما دامت أطراف النزاع غير قادرة على حسم المعركة لصالحها، ويمتلك كل طرف عناصر قوة ويعاني من بعض نقاط الضعف، وإذا كان الجيش هو العنصر الأقوى في المعادلة الداخلية والفئات الوسطى والفقيرة، وهؤلاء مايزالون في صف الرئيس مادورو، فإن الولايات المتحدة بقدراتها الضخمة تقف وراء المعارضة، ولفنزويلا أهمية خاصة في الاقتصاد الأمريكي، فالنفط الفنزويلي يشكل الغنيمة الكبرى لواشنطن، لما له من أهمية على الصعيد العالمي من حيث حجم الإنتاج وكمية الاحتياط.

العدد 1105 - 01/5/2024