احتمالات الحوار

عادت إلى الظهور من جديد نغمات أمريكية، قديمة اختفت فترة، وهي الآن تعود بثوب جديد، من حيث الشكل وبمضمون لا يختلف عن صورة الطروح الأمريكية المتعاقبة التي خبرتها الشعوب جيداً.

فبعد الضجيج الذي بنى عليه الكثيرون آمالاً كبيرة، حول موافقة الولايات المتحدة على التعاون مع روسيا بشأن الأزمة السورية على أساس وثيقة جنيف (حزيران 2012)، وأعقب ذلك (الانقلاب) الذي حصل في تجمع المعارضة الخارجية لصالح الاتجاه الداعي إلى التكيف أكثر فأكثر مع متطلبات السياسة الأمريكية. وبعد (الاكتئاب) الذي أصاب مشايخ النفط العربي وسارقي ثماره من هذا التوجه، وبعد تنصل الولايات المتحدة من جبهة النصرة ومحاولة عزلها بداعي مكافحة الإرهاب والتعامل مع (إرهابيين معتدلين)، وانعكاس كل ذلك على السياسة الأوربية الذيلية للسياسة الأمريكية، نقول بعد ذلك، عمت موجة من المواقف والتصريحات الأمريكية والأوربية والخليجية المليئة بالسموم والغطرسة والتهديد والوعيد ضد سورية توازي أو تعادل حملة التهديدات التي اعتدنا على سماعها منذ نحو العامين.

فقد أعلنت الولايات المتحدة منذ أيام أنها ستدعم المعارضة السورية وستزودها بأسلحة غير قاتلة،  وهذا تهريج أمريكي جديد واستخفاف بعقول البشر. تلتها مواقف وقحة لبعض الأوربيين أشهرهم في هذه المرة البريطانيون لا الفرنسيون الذين أشهروا سلاحهم علناً، وأعلنوا أنهم سيزوِّدون المتسللين إلى سورية الذين يتدربون الآن في معسكرات التدريب المقامة على الأراضي التركية والأردنية، بالسلاح، وسيشرف خبراء عسكريون من قبلهم على هذا التدريب.

أما الرجعية العربية وعلى رأسها (السعودية وقطر) فتنتظر الأوامر والإيعازات من المعلمين الأمريكان بما يجب فعله في المرحلة القادمة.

وقد أعلنت حماستها الشديدة للتوجه الأمريكي الأخير، الذي ترجمته هذه الرجعية بإعلانها عن دعم كل مجهود حربي تتخذه أية دولة عربية ضد سورية، فضلاً عن إعلان عزمها على إشغال مقعد سورية في الجامعة بالمعارضين لا بالسلطة الشرعية.

وفي تفسير هذا الموقف الأمريكي الجديد، يجب أن لا يجهد المرء كثيراً، فالسياسة الأمريكية هي هي، كما كانت، وكما ستبقى.

ويتعلق الأمر بالدرجة الأولى بميزان القوى على الأرض. فهي تنتظر حصول تحولات عسكرية ذات مغزى استراتيجي ضد الجيش العربي السوري، لكي تبني عليها خطتها للمرحلة القادمة، وهي تربط موقفها من الحوار والحل السياسي بالتطورات الساخنة على الأرض،  التي لا يرضى أي مواطن سوري شريف أن تسفر عن عودة التاريخ إلى الوراء نحو 1500 سنة.

ويتساءل الناس عن مصير الحوار الوطني والحل السياسي في ظل غياب أي موقف ثابت وواضح ومقنع من أطراف المعارضة الخارجية الذين مازالوا مصرين على الشروط التعجيزية التي أطلقوها من قبل. إن الواجب الوطني والإنساني يدفعنا إلى الإصرار على بقاء الحوار مفتوحاً مع كل المعارضين مهما كانت الصعوبات التي تواجهه، وهي كثيرة للغاية، ويجب أن نستمر في تقديم المبادرات البناءة والإيجابية حتى ولو طال الزمن، لكن شريطة ألا تتجمد الحياة الداخلية وتقف عند النقطة التي نحن فيها الآن.

إننا نرى السعي المستمر لكي تأتي المعارضة إلى طاولة الحوار الوطني، ولطالما أكد حزبنا على هذا المنطلق منذ الأيام الأولى للازمة. ولكن الحوار الوطني يجب أن يستمر، في الوقت نفسه، ويأخذ طابع التركيز على الوضع الداخلي السوري، وهو ما يستحق أن يعقد من أجله العديد من المؤتمرات، وهو عنصر أساسي في تقوية صمودنا أمام المخططات المعادية للوطن.

إن التركيز على إصلاح الداخل يجب ألا يفهم منه الإقلال من أهمية الحوار مع المعارضة، بل وربما يكون هذا الإصلاح هو ما نفتقد إليه، وهو جزء لا يتجزأ بالأصل من المبادرة الرئاسية حول الحوار، وهو ليس حواراً مع الذات بالمعنى الضيق للكلمة، بل يجب أن يكون مؤتمر الحوار، خطوة جديدة في النضال من أجل التغيير السلمي نحو الديمقراطية، ونحو إعادة صياغة الأوضاع والحياة السياسية الداخلية والاقتصادية والاجتماعية، وفق ما سيطرحه المندوبون إلى مؤتمر الحوار وألا يتخذ هذا المؤتمر طابعاً سلطوياً، وأن يكون المندوبون إليه يمثلون قطاعاتهم فعلاً، وأن تتعهد السلطة بتنفيذ ما يتوصل إليه المؤتمر فعلاً لا قولاً وألا تبقى حبراً على ورق.

العدد 1105 - 01/5/2024