العلم والنور

منذ أن أبصرت عيوننا نور الحياة وآذاننا تقرعها عبارة (العلم نور.. والجهل ظلام)، هذه العبارة رُسِّخت في اللاشعور وأصبحت جزءاً من حصيلتنا اللغوية المكتسبة مع الكلمات الأولى التي تُلقَّن للطفل أو ينطق بها لتُشكّل لديه عادة بسيطة يقوم من خلالها فيما بعد بترداد الكلمات والعبارات دون أدنى تفكير فيما يردّد أو يقول.

 فكلمة (بابا) مثلاً أو (ماما) عندما يتلفظ بها الفرد صغيراً كان أم كبيراً لا يَرْفقها بأي نوع من التفكير أو التحليل لمعنى الأمومة وجوهرها.

 وبالعودة إلى عبارة (العلم نور) نجد أنه رغم كثرة التكرار إلا أن حقيقة النور وماهيته لا تزال مظلمة.

 فما هو هذا النور؟ وما هي طبيعته؟ وكيف يبلغه المرء؟ وما هو التّغير الناتج عن بلوغه؟ ونوعية هذا التّغير؟

 وسيل من الأسئلة لا يكاد ينتهي، وهذا كله قبل الانتقال إلى الشطر الثاني من العبارة (الجهل ظلام).

 بتعريف مبسط وعامّي للعلم نقول: هو انتقال من المجهول إلى المعلوم.  وعملية الانتقال هذه لقيت اهتماماً وجهداً حثيثاً عبر العصور منذ وجود الإنسان على هذه الأرض وصولاً إلى عصرنا الحالي المسمّى (بعصر العلم).

وبحثنا هنا ليس في العلم، فهذا مصطلح له فلسفته الخاصة المعروفة (بفلسفة العلم)، وإنما نُعنى هنا بالنور المنبثق عن هذا المصطلح.

 وباستعراض لأبرز التطبيقات المعاصرة والمشاهدة لهذا النور، نجد أن ماركس قد رآه في تحقيق الانعتاق الروحي للإنسان ونبذ كل ما وراء المادة، فما الحياة إلا ارتقاء مادي على مستوى الاقتصاد والإنتاج.

 والشديد في الغرابة أن يستخدم السيد ماركس – مع نظرته هذه – لفظة (شهيد) في معظم كتبه إن لم نقل في كلها، رغم أن هذه الكلمة ذو أصل ديني مسيحي يعود بتاريخه إلى العصر الروماني، إذ كانت تطلق على (الشهداء المسيحيين) الذين كانت تقتلهم الإمبراطورية في ذلك العصر.

 ورأي ماركس هذا شكّل قاعدة انطلق منها أرباب الثورة الصناعية الذين جعلوا غاية العلم ( تحقيق رفاهية البشرية).

 والرفاهية أو الارتقاء في الرأيين السابقين منزوعين من الأخلاق، انطلاقاً من رفضها المبدئي للمثاليات والروحانيات.

 وهذه النظرة تطورت لتبلغ غاية جديدة تجسدت في: استغلال قوة العلم لبسط السيطرة واستعمار الأرض مادياً وأيديولوجياً، وقد قسّمت القوة إلى: صلبة وناعمة. والناعمة هي المظهر الوسيم الرقيق للبطش والبأس الشديد.

 ونظراً للانعكاسات المدمرة التي أنتجتها هذه الرؤية سواء على صعيد الحروب والقتل وغزو الطبيعة وتخريب نقائها وإفساد البيئة والعبث بنُظُمها وتفشي الانهيارات الأخلاقية، من أجل ذلك كله تعالت الصيحات تنادي بردِّ العلم إلى الأخلاق أو بردِّه إلى الإيمان، وقد كتب في هذا الصدد رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك العلاّمة (كرسي موريسون) كتابه: (العلم يدعو للإيمان)، وهذا على سبيل المثال لا الحصر بالتأكيد.  ولأنه لا تنافٍ بين خلق وإيمان أياً كان نوعه ومصدره، فإنني أستطيع تعريف النور العلمي بأنه: حصول معرفة في الذهن مقرونة بأخلاق ومُثُل وفضائل وقيم تتيح للإنسان فرداً كان أو جماعة أن يحقق ذاته ويرقي بأمته، ويعرض أفكاره مدعومة بالحجة العقلية والمنطقية دونما اعتداء أو إكراه، مع احترام للمخالف ومشاركته إخوانه من بني البشر في تحقيق خيريّة الإنسانية وسعادتها.

 وحتى هذه الرؤية أيضاً تحتاج في تحقيقها إلى القوة بأنواعها المختلفة، لأن السلام في حقيقته هو الطور الأخير من النمو التدريجي للقوة وتوزيعها المتوازن بين الأمم.

العدد 1105 - 01/5/2024