«حلبات الخلاف الاجتماعي»: تقبّل الآخر وعدم إقصائه

أضحت شبكات التواصل الاجتماعي الوسيلة الأولى للتواصل والتفاعل بين مئات ملايين المستخدمين حول العالم، فعملت على استقطابهم واستيعاب طاقاتهم المنبوذة سابقاً -خاصة للشباب/ات، ولكن بات الكثير من مستخدمي هذه الوسائل يستغلون الفضاء الحر والمفتوح الذي توفره من أجل بث الفتن والدعوات المسيئة، والهجوم اللفظي على كل من يخالفهم في الرأي وتكفيره متوازياً مع تقديس كل من يصفق لكلماتهم، وما يصاحب ذلك من ابتذال في التعبير، فنشوء هذه الشبكات كسر الحاجز التقليدي والآداب المألوفة سابقاً، وأنتج ثقافة جديدة، فاتحة المجال واسعاً للإنتاج وطرح الأفكار والتأثير بالرأي العام، وهو ما أكدته (النور) إحدى المدربات في مجال التنمية البشرية (طلبت عدم ذكر اسمها)، وقالت: (إنني أعاني من احتقان كبير من الأفكار التي أرغب في إيصالها للآخرين من خلال عملي في التدريب، ووجدت في شبكات التواصل على اختلاف أنواعها فرصة للتفاعل وسرعة في الوصول إلى أكبر شريحة متباينة الصفات الديموغرافية والفكرية..، فقد صارت الرسائل التي تبث عبر الشبكات هي الطريقة التي يمكن لأي شخص أن يعبر عن طريقها عما يجول في داخله)، وأردفت تقول إنه أمر يكتنفه خطورة كبيرة في نقل أفكار متطرفة والتفاعل معها بأساليب لا ترتقي إلى أخلاق الجدال وآدابه، مشيرة أن معظم الناس يشاركون لإشباع رغبات وحاجات، قد تكون احتياجات فكرية أو ثقافية أو معلوماتية… لافتة إلى أن معظم مشاكلنا تقع بين ما أقصده (أنا) وما تفهمه (أنت).

وعن محتوى ما ينشر عبر هذه الشبكات قالت:  (من خلال مراقبتي لبعض ما ينشره الشباب والشابات رأيت أن أغلبها يتسم بالسطحية، فقد تحولت يومياتهم الإلكترونية إلى مكان يسجلون فيه دقائق أيامهم بالتفصيل، إضافة إلى التعبير عن الحالات والشعور وخلافه)، الأمر الذي قالت عنه الباحثة الاجتماعية رماح كلول: (لا يمكن أن نحكم على الطاقة الموجودة عند الإنسان بالوقت الحالي على أنها أصبحت طاقة هامشية أو منبوذة، بل هي طاقة غير معبر عنها، فالظروف والإمكانيات التي تستوعب هذه الطاقات هي التي تغيرت)، ولفتت إلى التطور التكنولوجي المتسارع مقابل انخفاض القدرة على التواصل الاجتماعي الذي ترافق مع ازدياد ضغوط العمل وكبر المجتمع وتوسعه أفقياً، وتغير في نمط العلاقات العائلية وضعفها، وتشكل مجموعات -صداقات- عمل أو توجهات فكرية وثقافية آنية ذات طابع مرحلي أدى إلى نجاح وانتشار التواصل عبر الشبكات الاجتماعية، التي (تحقق متنفساً للجميع للتعبير عن آرائهم وتوجهاتهم الفكرية ومعتقداتهم وحتى مشاعرهم الحالية وآخر أعمالهم والأحداث اليومية، فهنا أصبحت ممكنة وبالإمكان تحقيق هذا المجال الواسع من التعبير الحر نوعاً ما).

ومن ناحية أخرى تتعلق بالتعليقات التي تكتب على المنشورات والتي غالباً لا ترتبط بالمنشور ذاته وتحرفه عن الفكرة والمحتوى المكتوب، قالت  الباحثة الاجتماعية رماح كلول: أحياناً تكون التعليقات بعيدة عن المنشور ولا ترتبط به، وذلك لإثبات الوجود ولتوجيه نقد لصاحب المنشور، ولا يكون النقد على المنشور ذاته (أنا موجود بالفعل إذاً أنا موجود افتراضياً).

لقد أوجد انتشار هذه الشبكات مفاهيم جديدة للتعبير، فزاد استخدام الألفاظ النابية في الكتابة والتعبير حتى في القضايا الشخصية، كما أضحت النقاشات تعتمد برمتها على المهاترات والاتهامات، وكمثال النقاشات ضمن شبكات الأخبار التي تحول معظمها إلى حلبة صراع خاصة في مجتمعاتنا غير المعتادة على تقبّل الآخر ورأيه، والنقاش معه بحرية، لغياب ثقافة الديمقراطية والاختلاف، فقد اعتدنا على قمع من يخالفنا الرأي، والقضية الأخرى أن الاختلاف بالرأي مهما كان سياسياً أو دينياً أو اجتماعياً لم يعد ذا طابع فردي عدواني فقط، بل صرنا نشهد تكتلات ومجموعات إلكترونية تشن هجمات شرسة على كل مخالف لها بالرأي، وهو ما يعتبره البعض تجاوزاً لأخلاقيات الجدال وآداب الحوار والمناقشة، وعن ذلك قالت الباحثة كلول: (غالباً ما يوجه النقد للشخص وليس للموضوع، أو على المنشور، وما يساعد في ذلك غياب الرقابة على ما يُكتب؛ فتتجلى (الحرية المطلقة) في الرد وانتقاء الكلمات، دون احترام آداب المناقشة والحوار)، كما أشارت إلى ظاهرة استخدام الأسماء الوهمية التي سهّلت استخدام الألفاظ والتعابير غير اللائقة وتجاوز الآداب التي اعتدنا عليها، (إذاً اكتب ما تريد فلا يوجد رسوم على الكلام ولا رقيب لحذف ما كُتب)، وقد عزت كلول ذلك للبيئة التي أتى منها هذا الفرد محملاً بموروثات ثقافية وفكرية، إضافة إلى الكبت الشديد الموجود داخل كل واحد فيهم وفي المجتمع بشكل عام وخاصة العربية منها.

من جهة أخرى أشارت الباحثة الاجتماعية إلى (النفَس) الطائفي والمذهبي المنتشر عبر الصفحات الإلكترونية، مبينة أن سبب ذلك يعود للمجتمع نفسه وللظروف التي يعيشها، فهي التي تفرض مثل هذا النمط من التفكير وهذا النوع من التقسيم والتمييز، ورأى أن (النفس) الطائفي موجود ولكن لم يكن هناك مجال سهل وحر للتعبير عنه، ولكن عندما وُجدت البيئة المناسبة لذلك بدأ ظهور هذه الأفكار والتقسيمات والأحكام الجاهزة على الناس.

وأردفت: إن هذه المواقع تقوم على كسر الحواجز والحدود الجغرافية والاجتماعية وتجعل المناطق البعيدة كأنها قرية واحدة تربطهم الاهتمامات والهوايات والترابط الفكري والاجتماعي، لكنها من جهة أخرى تؤثر سلباً وخاصة على الشباب والأطفال، فقد بات كل منهم يعيش مع عالمه الافتراضي وأصدقائه الافتراضيين، وأبدت تخوفها من أن تصبح أفكارهم وحياتهم افتراضيتين أيضاً.

وعن السبل المناسبة لتسخير التكنولوجيا الحديثة والثورة المعلوماتية بطريقة إيجابية في بناء الطفل والمجتمع قالت: (نلاحظ فرقاً كبيراً بين معدلات استخدام شبكات التواصل الاجتماعي بين الفئات العمرية، إذ وصلت إلى حد الإدمان بين معظم المراهقين والشباب)، وأكدت أن التربية الجيدة هي فقط التي تضمن حسن استخدام هذه الوسائل.

وبالعودة إلى حالة المشهد السوري المنقسم إلى فئتين أساساً، وهو ما انعكس على حالة شبكات التواصل الاجتماعي، ليغدو أي شكل من أشكال الحوار العقلاني مجردَ مقامرة خاسرة، ممزوجة بالاتهامات والتخوين فأنت إما (منّدس) أو (شبّيح)، ولا خيار آخر، وهو ما يعتبره البعض مرحلة تدريب لنا كي نعتاد على النقاش الحر والمفتوح من غير ضوابط، فما أحوجنا اليوم للارتقاء بأخلاق الحوار والجدال عبر شبكات التواصل الاجتماعي وتعزيز الجوانب الإيجابية في التعامل معها، لنتمكن بالتالي من تقبّل الآخر وعدم إقصائه، فهو شريك لنا في بناء الوطن الذي نطمح جميعاً لبنائه، مع التأكيد على وجود ضوابط ناظمة للنشر الإلكتروني وتضمينه ضمن المناهج الدراسية، ويبقى الدور الأهم للأسرة.

وفي الختام هل يستوعب الناس هذه الممارسة الحرة، ويعون أهمية الحوار الديمقراطي وتقبل الرأي والرأي الآخر؟؟، أم سنبقى نشهد توزيع صكوك الوطنية وشهادات الانتماء التي لا يملك الكثيرون لبناتها الأولى.!

إنها فترة انتظار قد تطول أو تقصر.

العدد 1104 - 24/4/2024