قراءة في مسرحيته «يغنون الآن من جديد» مسرح فريش وتعرية التشوهات في زمن الأزمات

إذا كانت القصة والرواية تهتمان برصد التغيرات التي تطرأ على الفرد أو المجتمع، فإن المسرح يهتم بتغيير العالم وتجديده، وما من شيء ذي بال في الأدب سوى الجديد، على حد تعبير الناقد الفرنسي جايتون بيكون.

وقد مثل الأديب والمسرحي ماكس فريش (1912 ـ 1991) وزميله فريدريش دورنمات (1921ـ 1990) الأدبين السويسري والألماني، وقدما مسرحيات وأعمالاً أدبية رفيعة شغلت النقاد، وأدهشت عشاق المسرح، واحتفظت براهنيتها حتى اليوم.

ولد فريش في سويسرا، وأقام في ألمانيا، وهو مسرحي وروائي ومعماري ورحالة معروف، وقد أثارت أعماله الأدبية الاهتمام لما فيها من صراحة وقسوة، ونشر يومياته وهو في الأربعين، وقدم فيها رؤية أدبية للسنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وضمنها بذور أعماله اللاحقة التي كتبها في النصف الثاني من القرن العشرين.

ومن رواياته: أندورا ـ بيدرمان ومشعلو الحرائق، سيرة حياة، سور الصين، يغنون الآن من جديد.

وشهد فريش مآسي الحرب العالمية الثانية، ودان في أعماله مشعلي الحروب، والمتاجرين بدماء الشعوب، وانحاز إلى إنسانية البشر وحقهم الطبيعي في الحياة الكريمة.

مسرحية (يغنون الآن من جديد) ترجمها د. أحمد حيدر وصدرت عن وزارة الثقافة بدمشق، هي محاولة لإقامة صلاة على أرواح موتى، أو هي صياغة لائحة اتهام لقرن بأكمله، على حد تعبير جون كيندي تول. وهي في جزأين وسبعة مشاهد.

وتصور حكايتها آلام الحرب ومآسيها المركبة، وتعري تشوه العلاقات الإنسانية ومحنة البشر المحاصرين في لهيب الحرائق أو عتمات الأقبية، أو النازحين إلى أماكن بعيدة عن بلداتهم. ولكنها تصور في الوقت نفسه تصرفات الناس في الأزمات والأخطار المحدقة بهم، ودفاعاتهم البسيطة والعميقة في آن: بالغناء والموسيقا تارة، أو بالإصغاء إلى صدى الأغنيات حيناً، وبالنكتة وتلمس الجمال في التراث أو الواقع أو الوهم آناً، أو بانتظار الربيع وبالحب والاتهام الصامت في كل آن.

شخصيات المسرحية تعاني التهديد والضياع والانكسار: كارل مجند هارب من المعارك، في محاولة لرؤية ابنه وزوجته، يرجوه والده أن يعود إلى وحدته لأن وجوده بهذه الحال يشكل خطراً على الأسرة وسمعتها وعليه. والقس الذي يقدم خدمات كثيرة للجياع والمحطمين، كان جندياً، ثم استقر به الأمر في دير قريب. وكبير المعلمين المعروف بحزمه، لكنه يقتل على يد أحد تلاميذه. لأن ما تحدث به أمامهم لم ينفعهم، والأم جيني وطفلها ينتظران عودة الزوج في الربيع، لكن الجليد يتأخر ويؤخر قدوم الربيع، فتعيش مثل نساء كثيرات وصبايا ينتظرن عودة أحبتهن.

وطاحونة الحرب تظلل المشهد بقتامتها، وتطحن كل شيء: البشر الأبرياء و(الأعداء)، والمشاعر والقيم الإنسانية، والأسوأ أنها تترك البشر والشجر في وضع التفحم، وتسود حال من التوحش يقتل فيها المرء معلمه وأمه ومنقذه: حتى القس الذي خبز وأطعم جنود الأعداء الجائعين لم يسلم من القتل. قدمت المسرحية لوحات بارعة للبشر في حالات الخطر والتهديد، حيث لا دفاع أو عزاء لهم إلا الغناء، وحيث صدى الأغنيات يستمر قبل لحظة الإعدام وأثناءها وبعد الموت، كأنه يشير إلى قدوم الربيع. وقدمت شخصيات تتلمس أسباب مآسيها، وتحاول أن تجعل العالم أفضل بالموسيقا. وتحاول أن تفكر ما دامت لا نستطيع شيئاً آخر، ومثال ذلك ما قاله عامل اللاسلكي لإدوارد العازف – ص 42. ولكن أين حقوق البشر في الحياة والأمن؟ وأين حقوقهم في التعبير والاحتجاج والحماية من كوارث الصراعات المسلحة وأعمال الانتقام الوحشية؟ يقول إدوارد لعامل اللاسلكي مصوراً مفارقة فهم النازية الألمانية للحق: الحق، هذه الكلمة الكبيرة، نحن أعطيناها للعالم، نحن الذين تحدثنا عن الحق، وما نفعله الآن هو العنف، وتحدثنا عن السلام لكننا نزرع الحقد من جديد. ص43.

ويقول النقيب للقس: كان علينا أن نعيش حياتنا بطريقة مختلفة – ص،16 ويقول النقيب لعامل اللاسلكي والقس: الحرب تدمر أشياء كثيرة-  ص80. وفي الحوار الذي دار بين إدوارد الجندي العازف وعامل اللاسلكي يتكشف الجانب العصي على التدمير، يقول عامل اللاسلكي: العالم ليس جميلاً، وما تريد أن تقدمه موسيقاك هذه شيء لا وجود له. إنه وهم. ويرى إدوارد: ثمة جمال في الوهم الذي يجعلنا نتفاعل مع الجمال والموسيقا والنكتة، وهو الشيء الذي لا تستطيع قنابلنا تحطيمه – ص 33-34. ويقول هربرت التلميذ السابق الذي حولته الحرب إلى وحش لا يتورع عن قتل معلمه، لكبير المعلمين: سنعدم معك كلماتك، تفكيرك، كل ما تعده عقلاً! ص 105. ويقول القس للعريف التائه: على المرء أن يتعلم التحمل، سوف يدلّك الطفل على كل شيء – ص 76 ـ 77. وهل يمكن أن نعفي الحكومات ونخب المصالح من المسؤولية عما يجري من مجازر وكوارث؟ وهل نعجز عن الاحتجاج بأية وسيلة: بالغناء أو بالصمت؟ يقول إدوارد لعامل اللاسلكي وللنقيب وللأم جيني بعد أن صدمتهم مشاهد الإعدام والحرائق: أذنت الساعة لتوجيه اتهامكم الصامت. ص 116.

وسؤال المسرحية الجوهري: من يشعل نار الحرب، ومن يداوي جراح البشر وتشوهاتهم وأحقادهم؟ والصورة الصادمة التي تبرز في ثناياها: أن النازحين والبسطاء يغنون من جديد كلما سمعوا إطلاق نار -ص67.

وقد أحسن فريش مثل زميله دورنمات مزج السخرية السوداء والاتهام بالحلم والوهم، وترك فسحة من الضياء والأمل في نهاية النفق الطويل المظلم تتمثل في الاحتفاظ بجذوة الحب في النفوس، وفي الثقة بعودة أيام الهدوء من أجل إعادة بناء كل شيء كما كان: (المساكن والعلاقات الإنسانية وتربية الأطفال والحب) والثقة بعودة الربيع، وجمال الإصغاء إلى الموسيقا.

يقول القس لبنيامين الشاب: الحب جميل يا بنيامين، وهو يعرف ألا جدوى منه، وهو وحده الذي لا يعرف اليأس! ص 119.

المسرحية إدانة شديدة للحرب ومدبريها ومشعليها، وصرخة تحذير من تشوهاتها وتداعياتها الكارثية على الأفراد والمجتمعات، تلك التشوهات التي يمكن أن تؤسس لحروب أدهى وأوسع، يصعب أن ينجو أحد من أخطارها، ومن وحشية مدبريها وأدواتها، وهذه المسألة أقلقت فريش كثيراً، وتصدى لمعالجتها في عدد من مسرحياته، مثل مسرحية (بيدرمان ومشعلو الحرائق) و(حين انتهت الحرب)، وأقلقت النخب الثقافية الأوربية أيضاً، وتذكر المسرحية بمقولة طريفة لستويان ميخايلوفسكي: إذا لاقاك ذئب في الغابة أو أفعى فإن باستطاعتك النجاة. أما إذا لاقاك إنسان لم يقرأ سوى كتاب واحد فاهرب، وانج بنفسك، أو لا نجاة لك!

العدد 1105 - 01/5/2024