عن اللغة… ودلالاتها

لكل كائن لغته، ولكل لغة مفاهيمها ودلالاتها، وبتعدد أنماط استخدامها تكمن قيمتها. وإذا كان من المتعارف عليه أن اللغة هي الأصوات القابلة للفهم وللكتابة، فلا شك أيضاً أن هناك لغات أخرى هي أشبه بالمؤثرات الصوتية في الأعمال الدرامية، كصوت الريح وحفيف الأشجار، أصوات الأجراس وصرير الأبواب. قد تكون هذه الأصوات لغة جافة، لكنها لغة قابلة للفهم إن أريد لها ذلك.

ولكثرة أنماط استخدام اللغة، وما وصل إليه التقدّم التكنولوجي، لم تعد محصورة بمعناها التقليدي، وإنما تشعّب استخدامها بشكل يصعب معه ضبط معناها بدقة، ولا يمكن الاستسلام لمعنى واحد، فلكل مجال لغته، ولكل زمن لغته، حتى باتت اللغة من أكثر الألفاظ مرونة وتخصصاً.

يقولون إن اللعب على اللغة يسقط مفاهيم كثيرة، وربّما ينقلها إلى معنى مختلف لم يكن في الحسبان، وهذا ما نراه ونلمسه في كثير من المعاهدات والاتفاقيات الدولية، أمر لا ينطوي على البراءة، ولا حتى على المستوى الأدنى من أخلاقيات تفرضها العلاقات الإنسانية، وخاصة حين يتعلّق الأمر بمصير الشعوب.

ويقولون أيضاً إن الاشتغال عليها (اللغة) يمكّن المبدع من تطوير أدوات إبداعه، بحيث يستطيع الالتفاف على عين الرقيب حين يتعلق الأمر بمحظور من محظورات الكتابة، حتى إنّ مناورة الرقيب غدت مدرسة قائمة بذاتها من مدارس الكتابة الأدبية، وقد أنتجت (الرمزية) التي غدت من أهم ملامح الحداثة.

وإذا كانت اللغة جسداً للنص المكتوب، وحاملاً للفكرة، فإن أهميتها تبرز أدبياً من خلال تعدد دلالاتها، على عكس استخدامها لدى السياسيين، إذ تبدو الأهمية من وضوح الألفاظ، ودقّتها، والتركيز عليها بحيث لا يمكن أن تحمل سوى معنى واحد هو المقصود من الاتفاق أو المعاهدة.

هي اللغة، حمّالة الأوجه المتعددة للفظة الواحدة، لم تعد كما كانت وسيلة للتفاهم فقط، وإنما أصبحت لعبة خطرة، بل أخطر مما يتوقعه الجميع. وإذا كان السياسيون يستثمرونها في ألعابهم المدمّرة أحياناً، بسبب سوء نواياهم، نرى الشعراء على سبيل المثال يستثمرون غموضها وتعدد دلالاتها في إضافة القيم الفنية على النص، وإضفاء نوع من السحر يجعل من النص مثار دهشة، وموضع كثير من التفسيرات المختلفة، والمتناقضة أحياناً.

اللغة هي الكائن الأوحد الذي يحملنا للاقتراب من المطلق، من حيث كونها ليست ألفاظاً منطوقة فقط، وإنما هي أكثر من ذلك. هي إشارات وتعابير، هي موسيقا ورقص، هي أصوات غير مفهومة، لكن معناها يرسخ في الذهن سريعاً، هي إيماء واضح، وحركات دون كلام تفهمه البشرية كلها، فاللغة العالمية هي لغة الإشارات، لغة الأصوات المبهمة، هي اللغة غير المكتوبة، والتي لا يمكن كتابتها.

وإذا كانت اللغة قد بدأت بأصوات أوّلية عند نشوء الجنس البشري، فقد تنتهي بطريقة لا يستطيع أحد التكهّن بما تؤول إليه، وهاهي ذي لغة الأنترنت خير دليل. وقد لا يحتاج المستقبل إلى هذا الكمّ الهائل من المفردات، فيكتفي ببضعة رموز للتعبير عما نحتاج الآن إلى عشرات الصفحات كتابة وقراءة، أو لعدة ساعات في نقاش أو حوار.

وإذا كنا نطالب بتفاعل حيوي بين اللغات العالمية ليسهل الفهم بسرعة ويسر، فقد لا نحتاج إلى  ذلك في الغد، ويكفينا القليل من الوقت للمرور على مصطلحات أو إشارات نتواصل بها مع كل شعوب العالم. هي اللغة العالمية الواحدة التي قد تفرض نفسها في الآتي من الأيام، وتصير اللغات التي نتداولها الآن شيئاً من الفولكلور.

العدد 1105 - 01/5/2024