النقد بين الإبداع والتبعية

من المفترض أن النقد يشكل قيمة إبداعية لا تقل أهمية عن تلك القيمة التي تتركها القصيدة الحقيقية في وجدان القراء، نظراً للعلاقة الحتمية والمطلقة القائمة بين الشعر والنقد.

من المؤسف تماماً أن نلاحظ في الفترة الراهنة الغياب الجزئي للنقد الحقيقي، ورؤية النقاد في ذلك أن الإبداع الجيد قد غاب بصورة مفجعة وموجعة عن ساحة أدبية، تبدو مرتبكة وغامضة في شكلها الحالي المضطرب، ولعل الغياب يبدو أكثر حدة وإرباكاً في باب الشعر، حيث تشكل القصيدة القيمة الأعلى نضارة في وجدان قارئها عما تشكله الموضوعات الأخرى لدى القراء،وذلك راجع، بطلاقة الكلمة، إلى ما يمثله الوجدان الجماهيري من توق للمغنى، وما تشكله الكلمة المغناة من رهافة وشفافية لدى المستمع والقارئ العربي، إذ كان يستدل – سابقاً  وخاصة في مرحلة الستينيات – على قوة أثر القصيدة في المنتديات والمراكز الثقافية لدى خاصة القوم، بل وعموم الحضور، بما تتركه من أثر رائع وحار جداً في وجدان الحضور جميعه، حتى إن متابعة البحث عن تلك المراكز والمنتديات كانت تشكل متعة خاصة لدى المثقفين والمتذوقين، بما يتناسب وتلك الطفرة الهائلة التي قامت وواكبت تلك المرحلة ولم يكن الأمر مقتصراً على الشعر وحده بل كان هذا ينسحب على الفنون الأخرى، ولكن الشعر كان في مقدمتها ـ كان المجال مفتوحاً على مصراعيه للتأسيس لحركة نقدية، والبدء بالنهوض ببناء صرح النقد البنائي، النقد التأسيسي مقدمة لما يجيء به المستقبل، وكان من رواد النقد آنذاك د. محمد مندور، ود. غنيمي هلال ود. عبد الغفار مكاوي ود. شوقي ضيف، وغيرهم من نقاد مبدعين آخرين، ولكن بغياب تلك المرحلة الاستثناء، وانفلات المعايير الأدبية إلى سكك غير منضبطة وثابتة، واختلاط الأمور بعضها ببعض، وتراجع الفعل الإبداعي إلى مستويات متدنية وضبابية ومرتبكة، هذا كله أدى بالنتيجة إلى فقدان قدرة القيمة الإبداعية أن تندفع بقوة تأثيرها لإعادة علاقة المثقفين والمبدعين بجمهورهم وإعادة الاعتبار للفعل الإبداعي، ليعود إلى تلك المكانة اللائقة التي صاغها خلال ستينيات القرن الماضي، لأن الظروف كافة تهيأت للوصول إلى ما نحن عليه الآن من تخلف مفجع في مجالات الأدب، وخاصة فيما يتعلق بالإبداع في مجال الشعر! لقد أدى تفكك الضوابط الشعرية عن أدائها العالي، وتداخل الأجناس الأدبية، أن تزاحم الرواية والقصة القصيدة، وتدفعها إلى تلك الحكايات السردية الروائية لتكون جزءاً من تفاصيلها مما أوقع العمل الشعري الإبداعي في إرباك خطير وجعله قيمة تالية للرواية والقصة، والسبب الأهم في ذلك غياب المعايير الحقيقية للشعر، والالتباس الذي حصل نتيجة لذلك، ونهوض مجموعة من الملتبسة أسماؤهم وكتاباتهم، مجموعة غاية في الكثرة والتوالد اليومي، المسخ.. ذهب معظم هؤلاء إلى كتابات يومية عابرة، ظلت تهوي بقيمة الفعل الأدبي حتى وصلت به إلى درجة التدني والهاوية.

هذا ما حدا بالنقاد إلى الابتعاد تماماً عن قراءاتهم لما ينتج من كتابات عابرة معاصرة لا أساس لها من صحة، وبلا قيمة تذكر، وهذا ما دفع بالنقد إلى غياب شبه كلي عن متابعة ما يكتب وينشر!

ولعل الكارثة الكبرى تكمن في الشعر، وأقول كارثة  ن الظروف كانفلأن هذه الكلمة أقل بكثير جداً مما أقرؤه في فواجع ما يكتب وينشر، ولأن بعض الشعراء اطمأنوا تماماً لنشر ما ينتجونه فور إنتاجه، فهؤلاء لم يعد يهمهم الإبداع على الإطلاق، بل السرعة في نشر ما ينتجونه!؟

ولأن القيم الشعرية ضاعت ضوابطها ودعائمها وأساسياتها التاريخية، فإن لهاث الكتابة العابرة يبدو أكثر من لهاث القارئ للوصول إلى جوهر تلك الكتابات العابرة ومدلولاتها، وهي لا تصل في النهاية إلى شيء يذكر، فإن الناقد المعاصر نأى بنفسه عن قراءات تلك الكتابات، والعودة بنقده إلى المتنبي والبحتري وامرئ القيس، وغيرهم من شعراء العصور التالية ومرحلة الستينيات الزاخرة بوفرة الشعر المقروء والملموس والحقيقي أمام واقعنا البائس! ونلاحظ اليوم نوعين من النقد.. نوع مبتذل لنا قد يمدح شاعراً مبتدئاً لا قيمة لكتاباته على الإطلاق، ونوع آخر من النقد يذهب في التجريح، والشتم واللعن مذهب الرداحين البلغاء في الردح الآثم، فلا هذا النقد يصلح لأنه نقد مصالح متبادلة، ولا ذاك يصلح لأنه شيء من الفجور والكيدية، هما دفقتان من الزبد تطفوان على السطح، ثم تنطفئان بسرعة الفقاعات الرخوة، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وحتى نصل إلى ذلك القليل النافع الرائع، علينا أن نعيد الحسابات تماماً فيما نكتب ونبدع، ونقرأ! لم تخلُ الساحة من بعض الجماليات الرائعة، وبحثنا عنها يوصلنا إليها، ويضعنا على حافة متعة حقيقية، ونشوة حارة جداً تدفعنا إلى أملٍ يشدنا إلى فكرة  أن الروائع موجودة، وأن القيم الجمالية باقية، ومتناثرة في الوجود كما حال اللؤلؤ المكنون، والمتناثر في أعماق البحار والمحيطات يصل إليه الغواصون الماهرون، رغم كثرة القواقع الفارغة، والصدفات البائسة، ونبقى مع لغتنا/ البحر، مع مقولة:

أنا البحر في أرجائي الدرُّ كامِنٌ

 فهَلْ سألوا الغوّاصَ عن صدفاتي؟!

وأخيراً فأنا لا أضع في اعتباري استراتيجية الإنكار، لأن الجماليات باقية في الزمن رغم ضراوة التراكمات الموحشة!؟

العدد 1104 - 24/4/2024