حوارات الفن

الأعمال الفنية هي مخلوقات أعجزت حتى خالقها عن الوقوف على سر تشكلها وولادتها فلن يستطيع أي فنان أن يصف بدقة كيف يبدع أو كيف تبصر إبداعاته النور. وهذا الكلام ينطبق على الفنون السبعة جميعها التي أولها العمارة وسابعها السينما كما يسري على الأعمال التي ينفق فيها مبدعها عشرات السنين ( أمضى غوته ستة عقود في كتابة فاوست) سريانه على الإبداعات التي تتشكل وتتبلور خلال أيام قلائل، فحتى هذه اللحظة لم يتمكن أحد من تحديد آلية وخوارزمية العملية الإبداعية، ورغم أن الفنون البصرية قابلة للمراقبة والمتابعة خلال مراحل تكوينها أكثر من الشعر والموسيقا، وهو ما فعله باقتدار المخرج الفرنسي هنري جورج كلوزو في فيلمه (بيكاسو الغامض) سنة 1956عندما صور لوحات بيكاسو، في مراحل تشكلها كافة، وتابع بكاميرته كيف تخرج من بين يدي رائد التكعيبية وأحد أهم فناني القرن العشرين إلا أن هذا لا يعني أن الفنان التشكيلي يعي تماماً كيف حصل هذا الخلق وكيف آلت الأمور إلى ما آلت اليه.

و رغم صعوبة الخوض في الأمور المتعلقة بتقصي العلل الأولى للعمل الفني إلا أنه من الممكن مقاربة الموضوع على أنه سلسلة من الحوارات تبدأ قبل ولادة العمل ولا تنتهي بانتهائه، أما أول هذه الحوارات فهو حوار بين الفنان والمحفز الذي يوقد بذهنه الشرارة الأولى للإبداع فقد ألف بيتهوفن سيمفونيته الخامسة (سيمفونية القدر) تحدياً للقدر الذي رماه بالصمم في آخر مراحل حياته كما كتبت أغاثا كريستي روايتها الأشهر (جريمة في قطار الشرق) بعد رحلة في القطار المذكور انتهت بها في حلب، والأمثلة على ذلك وفيرة ولعل أكثرها طرافة قصيدة مسكين الدارمي (قل للمليحة بالخمار الأسود) التي قيل أنه كتبها من أجل صديقه التاجر الذي لم يتمكن من بيع الخمر السود التي حملها الى المدينة. أما ثاني الحوارات فهو حوار الفنان مع ذاته أو مع شيطان الإلهام والذي ستبدأ بعده أولى نباشير العمل الفني بالظهور، وقد يعمد بعض الفنانين إلى الحوار المباشر مع المواد الأولية وهذا ما يحدث بين النحات والكتلة المراد نحتها أو الرسام والقماش الأبيض، فأولئك الفنانون يفضلون المباشرة بالعمل فوراً تاركين للإلهام أن يقود كل حركاتهم، فيترك الرسام ريشته لتبدأ بمداعبة القماش مسلساً قياده للوحي، كما يترك الشاعر ربات الفنون تغرف من بحر اللغة شتى الجواهر لتصوغها عقوداً وباقات تتمتع بالجمال والأناقة أما حوار العازف مع آلته فهو أجمل تلك الحوارات وأكثرها شاعرية وإحساساً لأن الألحان التي تتدفق نتيجة هذا الحوار تكاد تملك شيئاً من القدسية، وهذه الحوارات هي لب عملية الإبداع وهي قد تطول وقد تقصر، وقد تكتمل أو تتوقف بمرحلة ما كما حصل مع ليوناردو دا فنشي في لوحته (العشاء الأخير) عندما أحس بأنه قد استنفد تعابير الوجوه كافة عندما رسم وجوه التلاميذ الاثني عشر فلم يسعفه الإلهام لإكمال الشخصية المحورية في اللوحة أي السيد المسيح فترك مجرد خطوط لا يعلم أحد هل أكملها هو أم أحد طلابه. ويجب التنبيه أننا هنا نتحدث عن الإبداع الصرف أي الذي لا تشوبه شائبة التقليد أو المصاب بآفة الربح التجاري التي تدنّي من سوية الفن. أما آخر حوار يدخل فيه الفنان فهو حواره مع العمل المكتمل الذي يعمد فيه إلى التنعم بما أنجز الالهام من خلاله ومن ثم ممارسة شيء من النقد الذاتي الضروري لوضع اللمسات الأخيرة على العمل مع العلم أنه كلما كان الفنان قادراً على إدهاش نفسه كان أكثر إبداعاً، وقصة مايكل أنجلو مع تمثال موسى خير مثال على ذلك، فقد طلب الفنان التوسكاني من التمثال أن يتكلم لشدة إعجابه به، وعندما لم يفعل ضربه بمعوله ضربة لا تزال آثارها ظاهرة على ركبة النبي، فهل تنتهي حوارات الفن عند هذه المرحلة؟ ما زال هناك الحوار الأهم الذي هو حوار المتلقي مع المنتج الفني وهو لا يقل شأناً عن كل ما سبق، فلا وجود لفن دون جمهور يتذوقه ولا استمرار لفنان يبدع من أجل ذاته فقط، فالمتلقي هو غاية الفن ومبتغاه وهو أداة مهمة في دعمه وتطويره، وهنا نسأل أنفسنا: هل توجد في مجتمعنا علاقة سليمة بين الفنان والجمهور أم أن كلاً منهما يحمّل الآخر مسؤولية تردي هذه العلاقة؟

العدد 1104 - 24/4/2024