فن الصورة عن الصورة الفنان التشكيلي في السينما فضاء آخر للألوان

نذهب إلى الصالة التشكيلية، نقيمُ علاقات مع الألوان بطريقةٍ مختلفة، عما هي عليه في الطبيعة، نقرأُ ضربات الريشة، التي تكون قاسية حيناً، ولينة حيناً آخر، نقيمُ علاقات تصير حميمية مع اللوحة، بما تقدمه من قيمٍ جمالية، وانزياحات وانطباعات ورموز. و.. قد نشتريها كشيء حميمي أيضاً وكقيمةٍ جمالية، و.. تحفة، تصير أحد معالم المنزل..

فن الصورة

لكن ماذا عن (الصانع) الفنان الذي اشتغل هذه اللوحة، كيف عاش، ما هي هواجسه؟ يبدو أن السينما كانت قادرة على تقديم الكثير من الإجابات على هذه التفاصيل، هذا  ما لمسناه ذات عروض في أربعة أفلام مختلفة بكل شيء، وليس من رابط بينها سوى حياة هؤلاء الفنانين الأربعة، الذين يختلفون بكل شيء أيضاً، ولا رابط بينهم سوى الاشتغال على اللون، ولكن كلٌّ نظر إليه بطريقة مختلفة، الفنانون هم: الفنانة الفرنسية الفطرية (سيرافين دوسانليس) والفنان فان غوغ، والسوري فاتح المدرس، والعراقي جبر علوان، هنا لكل تجربة عالمها وفضاؤها المختلف، وحياة وهواجس مختلفة، و.. أيضاً الأفلام كانت مختلفة وإن كانت كلها تأتي كفن الصورة عن الصورة، ففيما جاء الفيلمان العربيان تسجيليين عن المُدرّس وعلوان، الأول إخراج عمر أميرلاي وأسامة محمد، ومحمد ملص، والثاني قيس الزبيدي، جاء الفيلمان الفرنسيان كأفلام روائية طويلة، التي تأخذ جانب أو مجال السيرة الذاتية، و.. حتى بالاشتغال على الفيلمين التسجيليين للمدرس وعلوان كان ثمة اختلاف كبير، ففي فيلم جبر علوان كان الإبداع يكتسب حضوره من التصرف بالفراغ وقراءة اللون، والفراغ، عكس المدرس، الذي قدم كبورتريه، شديد الاكتظاظ اللوني، وفي الحيز الضيق..!!

داخل وخارج

في فيلم المدرس اعتمدت اللقطة الواحدة وما يُحيط بالوجه للدخول إلى جوانية الفنان، على العكس، كان اكتشاف علوان من عالمه الواسع، هذا العالم الذي هو عبارة عن وطن في حقيبة، ألوان مسافرة، فيما جاءت اللقطة الواحدة لتعبّر ربما عن ذات الهموم بين علوان والمدرس، وكانت مؤثرة للمدرس كفنان مهموم بكل ما حوله، وفي كلا الفيلمين كانت الحالة السيكولوجية للفنان هي الأساس لأعماله، هنا حيث تتشابه آلام الصرخات، لتشكّل اللوحة..!!

أما فيلما سيرافين وفان غوغ، رغم اختلاف عالم كل منهما وتجربته وفضاءاتها، فالأولى فنانة فطرية شبه متوحدة، عالمها كله من ألوان تصنعها بنفسها ولنفسها فقط، ترسم حسب ما يوحي لها، أو كما تقول هذه الخادمة التي تشتغل في منازل الأغنياء، ترسم لأن المسيح وأمه مريم أمراها بذلك، هي ترسم (كصلاة) وعبادة، فيما فان غوغ الذي عاش في عصر رينوار، يبدو كالمتوحد هو الآخر، لأن أحداً لا يعترف بقيمة ما يرسم، حتى أقرب الناس إليه، وأقصد شقيقه تاجر اللوحات، وفيما تعيش سيرافين توحدها، يعيش فان غوغ عبثيته وعربدته، وإن كانت النهاية واحدة لكليهما الانتحار والجنون..!! ذلك أن بين الإبداع والجنون، ثمة من يتحدث عن شعرة، وأحياناً تظهر اشتباكات وتقاطعات بين الإبداع والجنون، حتى كانت (شعلة) الإبداع هذه، وفي مختلف مجالات الإبداع والابتكار، هي ما يمنع المبدع من الاتجاه صوب الجنون، لكن إذا ما تعرضت هذه الشعلة لخطرٍ ما، أو كارثة ما، بمعنى إذا ما انطفأت لإحباط أو لآخر، فإن الباب سيُفتح واسعاً لخروج المبدع من دائرة الإبداع إلى آفاق الجنون، و.. ربما إلى الانتحار، فالإبداع يكاد يكون هنا انتحاراً مجازياً، والتشكيلي أو الروائي والشاعر بدل أن يسفك دمه في هذه الحالة، يسفك حبره وألوانه، وإذا كان نجح كل من فاتح المدرس وجبر علوان في هذا الانتحار المجازي، لأن ثمة من اعترف بإبداعهما وقيمته وهما على قيد الحياة، فقد فشل فان غوغ ووصل إلى الانتحار الحقيقي، وقبله إلى ما يشبه الجنون، فيما سيرافين ارتاحت لآفاق وأمداء الجنون..!! إنها مأساة الحلم عندما ينتهي بملاقاة الواقع..!!

حلم وواقع

جديرة هي التجربة التشكيلية أن توثق بفيلم يستعيد ذاكرة الفن التشكيلي السوري، وهذا ما أبدعه المخرج ريمون بطرس في فيلم (همسات) الذي يضعك أمام تجارب قوية في التشكيل مثل لؤي كيالي والمدرس ونبعة وآخرين في توليفة ما بين التصوير والموسيقا ولغة السينما ويحركه إيقاع ممتع، الصورة تتفاعل وتتحرك مع اللوحة والموسيقا تتبدل حسب كل تجربة فنية.

 يذكر الفنان التشكيلي سامر أمين إسماعيل: منذ بدء الفيلم يضعك – بطرس- في جو التشكيل، يُقيم بعض الفواصل ما بين موضوع وآخر من خلال سكب ألوان على السطح الأبيض بأشكال تلوينية مختلفة متوافقة ومتوائمة مع الموسيقا التصويرية، وكثيراً ما يضع عين الكاميرا على تفاصيل مشغل الفنان التي شكلت لوحة بذاتها، ثمة تركيز في بعض الأحيان فقط  على اللون والفرشاة والباليت، لا يقدم المخرج هنا سيناريو تأريخي أو زمني حتى دون الإشارة إلى أسماء الفنانين – يقول إسماعيل- بل هو يقدم التجربة التشكيلية من خلال موضوعات لا يغيب عنها الاهتمام برواد التشكيل الذين يبدأ الفيلم بهم مثل محمود جلال، إقبال قارصلي، نصير شورى، عبر تحريك غير تقليدي للكاميرا تدخلك بالحدث التشكيلي، ويلي ذلك فصل آخر بعنوان أرابيسك حيث تجول الكاميرا في مرسم عبد اللطيف أرناؤوط ومحمد غنوم ويستعرض أعمال محمود حماد، ترافقها الموسيقا التصويرية الممزوجة بأصوات الطبيعة مع صوت العصافير، تحضر أعمال برصوم برصوما في الفصل المعنون (أساطير) بحركة كاميرا انسيابية ومع موسيقا كنسية في أعمال إلياس زيات، وثمة دلالة أخرى لمشهد الشموع الملتهبة التي جاءت بعدها أعمال لؤي كيالي، وفي نفس الجو تجول الكاميرا مع فائق دحدوح وأعمال عمر حمدي بتركيز على العيون، تسمع وقع خطوات الأقدام أثناء الدخول لمرسم فاتح المدرس، حيث يؤكد المخرج في كادر الصورة على التفاصيل الصغيرة للمرسم، ومن ثم الوجه بإضاءة جانبية تعطي حساسية المدرس الداخلية، وبذات الجو يُصوّر خزيمة علواني المبدع المختلف، ويستعرض في (مواويل تشكيلية) عدداً من الأسماء الهامة مثل: عصام درويش، سعد يكن، نذير إسماعيل وجورج ماهر الذي كان من الممكن أن يكون في فصل أساطير، أما (طين وحجر وناس) فموضوع آخر يشير فيه لوليد قارصلي وعتاب حريب وآخرين، ومن بين الموضوعات الأخرى (نساء، نساء، نساء وأنغام) ويختم الفنان إسماعيل: لاشك أن (همسات) ريمون بطرس التشكيلية وصلتنا بصوتٍ عالٍ ووضعتنا بمناخ ساحر للوحة السورية.

العدد 1107 - 22/5/2024