سياسة أردوغان والمسعى الإمبريالي ضد سورية

أصبح الاحتجاج الصغير، الذي بدأ في 30 أيار، بهدف حماية مساحة خضراء وسط إسطنبول من التحوّل إلى مركز تسوق ضخم، حركةً شعبية واسعة، وتحدى المحتجون ببطولة وحشية الشرطة التي استخدمت الغاز المسيل للدموع ورذاذ الفلفل والهراوات ومدافع الماء والقنابل الدخانية والرصاص المطاطي ضد الشعب التركي والكردي الأعزل.

وأثارت بطولاتهم هذه مظاهرات تضامن من اليونان القريبة، إلى أستراليا البعيدة، انضمت إلى الاحتجاج ضد رئيس وزراء تركيا النيوليبرالي رجب طيب أردوغان، الذي كان قد انتخب مع حزبه (العدالة والتنمية) ذي الخلفية الإسلامية ثلاث مرات منذ عام 2002.

وقبل أيام قليلة، بدأ الاتحادان النقابيان اليساريان الرئيسان كيسك، الذي يمثل 240 ألف عامل في القطاع العام، وديسك، إضراباً عاماً، وغيّر كيسك مطالبه النقابية إلى التضامن مع المظاهرة الجماهيرية، وتعطي المشاركة الواسعة للعمال موجة الاحتجاج طابعاً طبقياً عمالياً.

وعندما ردت شرطة إسطنبول بعنف على الجماعة الأولى المؤلفة من مئات المتظاهرين الذين حاولوا منع الحكومة من قطع 606 شجرات في حديقة غيزي، انضم إليهم الآلاف متحدّين الشرطة. وفي اليوم التالي عبر أربعون ألف شخص الجسر من الجانب الآسيوي من إسطنبول عبر البوسفور للانضمام إلى آلاف آخرين في ساحة تقسيم.

ضم المتظاهرون الذين يقدرون الآن بمئات الآلاف في خمسين مدينة تركية، شباباً جمعتهم وسائل التواصل الاجتماعي، وحزب الشعب الجمهوري، وحتى أعضاء أندية كرة القدم المتنافسة.

وكانت القوى اليسارية، مثل الحزب الشيوعي التركي وجبهة التحرير الشعبي الثوري، في الخط الأمامي لمعارك الشوارع، ودعا فرع أنقرة للحزب الشيوعي التركي إلى استقالة (الديكتاتور) أردوغان وحكومته.

وكانت ساحة تقسيم مسرحاً لمجزرة العمال على يد النظام التركي المدعوم أمريكياً في عام ،1977 استناداً إلى دراسة أجرتها جامعة (بيلفي) شملت 3000 محتج، فإن السبب الأساسي للثورة هو (الموقف الاستبدادي لرئيس الوزراء). (الأخبار في 8 حزيران 2013).

على الرغم من النمو الاقتصادي الحديث في تركيا، إلا أن الفوائد كانت غير متكافئة في ظل السياسات النيوليبرالية لحزب العدالة والتنمية المؤيد للرأسمالية. وهذا الحزب قريب من المملكتين الرجعيتين في قطر والعربية السعودية ويعتمد على دعمهما، واتبع حزب العدالة والتنمية أجندة لا ترحم من التسريحات والاقتطاعات وتفجير النقابات.

يحصل أغنى عشرين في المئة من سكان تركيا، البالغ عددهم 75 مليوناً، على أكثر من نصف الدخل الوطني، في حين يحصل العشرون في المئة الأفقر على ستة في المئة فقط.

حزب العدالة والتنمية شق يميني من حزب الفضيلة الإسلامي الميت الآن، الذي كانت قطر والعربية السعودية يمولانه، واستندت الجاذبية الأولية لحزب العدالة والتنمية إلى تقليص القوة السياسية لجيش تركيا المرتبط بمنظمة حلف شمال الأطلسي الذي فرض نظام الحكم العرفي من عام 1979 إلى عام ،1984 واحتفظ لنفسه بدور خاص في الدستور، وخفف أردوغان أيضاً القمع ضد الشعب الكردي، لأنه استند إلى لإسلام بدلاً من القومية التركية، وأقام علاقات أوثق مع العالمين العربي والإسلامي ومن ضمنه إيران.

بدأ أردوغان مفاوضات مع حزب العمال الكردستاني، الجماعة التي خاضت حرب أنصار من أجل تقرير المصير الكردي منذ عام 1984 في المناطق الكردية في تركيا.

وقف أردوغان قبل بدء جولة علاقات خارجية إلى شمال إفريقيا وراء قمع الشرطة، الذي نجم عنه اعتقال 1500 شخص ومئات الجرحى ومقتل أربعة متظاهرين على الأقل، وقد وصف المتظاهرين بـ(المتطرفين) و(مجموعة لصوص)، وقلل من شأن الاحتجاجات ووصفها بصورة عابرة. (أب في 3 حزيران).

أما نائب رئيس الوزراء بولنت أرينس الذي بقي في البلد لمواجهة الجماهير، فقد اعتذر في 4 حزيران إلى المتظاهرين الذين أصيبوا نتيجة أعمال الشرطة.

تركيا قوة إقليمية في غرب آسيا، مثلها مثل مصر وإيران، ولكنها اعتمدت عسكرياً على الإمبريالية الأمريكية، واقتصادياً على الإمبريالية الألمانية لمعظم فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وتركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، وخلال الحرب الباردة اصطف جيشها ضد الاتحاد السوفييتي وقاتل الجنود الأتراك تحت القيادة الأمريكية في كوريا في أعوام 1950-1953 ضد جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية. وأخيراً جعل أردوغان تركيا دولة المواجهة في المسعى الإمبريالي للإطاحة بالحكومة السورية، وقد قرّب هذا تركيا من حرب تبغضها إلى أقصى حد الأغلبية في تركيا، وأظهر المتظاهرون معارضتهم للحرب، قبل أسابيع قليلة، بعد تفجير سيارة في بلدة على الحدود مع سورية، نفذته المعارضة السورية، خرجت مظاهرات ضخمة في تركيا ضد سياسات الحكومة المعادية لسورية.

 

سياسة الولايات المتحدة تجاه تركيا

أظهرت واشنطن توجهها نحو أردوغان في آذار الماضي عندما نجح الرئيس باراك أوباما في دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إلى الاعتذار علناً من أردوغان عن قتل (إسرائيل) لمواطنين  أتراك على سفينة مرمرة كانوا ينقلون إمدادات إعانة إلى غزة قبل ثلاثة أعوام. وأشار هذا المسعى الدبلوماسي إلى اعتماد واشنطن على الحكومة التركية لمواصلة الهجمة على سورية.

كان رد واشنطن حذراً على الأحداث الأخيرة، فقد عبرت عن التعاطف مع المتظاهرين ضد القمع، ولكنها تواصل دعم بحث الحكومة التركية عن طريقة لتهدئة الاحتجاجات. لا مصلحة حقيقية للإمبريالية الأمريكية في الدفاع عن حقوق المتظاهرين ضد الحكومة، سواء في ساحة تقسيم أو حديقة زوكوتي في وسط مانهاتن. يظهر حذر الولايات المتحدة أن واشنطن غير متأكدة إلى أين ستقود المظاهرات. واحدة من مظاهرات الـتأييد العديدة على مستوى العالم نظمها الحزب الشيوعي اليوناني ومنظمته الشبيبية في أثينا في 3 حزيران، ودعت إلى (وحدة عمال اليونان وتركيا ضد الرأسمالية).

كيف يمكن تفسير المظاهرات الجماهيرية الواسعة في تركيا؟ هل هي ربيع تركي، أم انتفاضة شعبية، أم محاولة انقلاب أشعلها القوميون؟

من أجل تقديم تفسير واقعي، ينبغي تقويم الأحداث السياسية الأخيرة في تركيا.. لا شك أن النار لم تشعلها شرارة واحدة فقط.. حكومة حزب العدالة والتنمية هي الحليف الأكثر ولاء للولايات المتحدة والإمبريالية الغربية في الشرق الأوسط، وهي فاعل مهم في مبادرة الشرق الأوسط الكبير، والمنفّذ الأكثر إخلاصاً للسياسة النيوليبرالية، وواجهت سياساتها احتجاجات واسعة منذ سنوات.

إن سياسات مثل بيع الملكية العامة لمؤسسات متعددة الجنسيات ولزعماء محليين، والتسريحات الواسعة، وتفجير النقابات، وتقييد الحريات الاجتماعية، وتخفيض الأجور، وزيادة استغلال العمال باسم زيادة الأداء، أثارت تمرداً يومياً في المعامل والمؤسسات. ومن جهة أخرى، سبب تجاهل الشعب الكردي وسياسات صَهْره والاعتقالات الواسعة ارتدادات كبيرة.

أما البورجوازية الحضرية، فقد أزعجتها ممارسات حكومة العدالة والتنمية وبياناتها ذات الخلفية الدينية.. تطبيق التعليم الديني الإلزامي في المدارس الثانوية، وإعادة ترتيب النظام التربوي وفقاً لمراجع دينية مطلوبة، والزيادة في عدد المدارس الدينية، ووزارة الشؤون الدينية التي توظف جيشاً كبيراً من رجال الدين من أجل التحكيم، وتقييد بيع المشروبات الكحولية والتدخين، وملء الدوائر البيروقراطية بشرائح توصف بأنها موالية لحزب العدالة والتنمية.

وبواسطة وضع معدلات فائدة مرتفعة وبيع الملكية العامة للرأسمال الأجنبي بأسعار منخفضة جداً، وفر حزب العدالة والتنمية تدفق الرساميل المذعورة، وحاول اجتذاب رأسمال الأسهم الذي أحجم عن استثمار نقوده في الشرق الأوسط أو في المصارف والشركات الغربية، وهكذا كان وقع الأزمة الاقتصادية العالمية أخف على تركيا بالمقارنة مع أوربا والولايات المتحدة. ولكن تدفق الرساميل المذعورة من الخارج انخفض فيما بعد، وحاولت حكومة حزب العدالة والتنمية تجنب المأزق الاقتصادي بتنفيذ حملة بناء سميت (التحول الحضري).. وهكذا صودرت أثمن المناطق في المدن الكبرى، وشيدت أبنية متعددة الطوابق على أملاك عامة، وبيعت بأعلى الأسعار. وأدى هذا، إضافة إلى تفاقم مشكلة النقل وتدمير المساحات الخضراء والسياسات المجحفة التي ملأ أنصار حزب العدالة والتنمية بفضلها جيوبهم، إلى سخط واسع. (مجلة لافورج الفرنسية، عدد حزيران 2013).

العدد 1105 - 01/5/2024