إثارة السلاح الكيميائي مرة أخرى!

يثير طرح موضوع السلاح الكيميائي واستخدامه في سورية مرة أخرى، تساؤلات مشروعة ومحقة حول التدقيق في هوية مستخدميه، وكيفية التعامل الدولي معهم، وضرورة محاسبتهم. كذلك حول أهداف إثارة هذا الموضوع بين الفينة والأخرى، وفقاً لأجندات، أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها غير معنية بأمن السوريين وسلامتهم وحياتهم. ورغم طرح هذا الموضوع مراراً، على الأقل نظرياً، من قبل الهيئات الدولية المعنية، وتنطّح بعض الدول (الغربية)، وخاصة الولايات المتحدة، في عرض مشاريع معاقبة المسؤولين عنه، فإن هذه الأطروحات ظلت حتى تاريخه دون مستوى الحدث، على أهميته وخصوصيته، وكذلك تداعياته.

ويعود التعامل الأوليّ مع موضوعة استخدام السلاح الكيميائي، وبخاصة غاز السارين، إلى حادثة خان العسل- حلب في 19 آذار الماضي، إثر إطلاق قذيفة أودت بالعشرات من المدنيين (وهي منطقة محاطة بقرى ومناطق عسكرية غير خاضعة حتى تاريخه للحكومة السورية). تقدمت على أثرها ومبكراً الحكومة السورية برسالة مزدوجة إلى أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون، وإلى مجلس الأمن الدولي، طالبت فيها بإجراء تحقيق دولي في الحادثة ومعاقبة الفاعلين.

وإذا كان مجلس الأمن الدولي واللجنة الدولية المتخصصة قد وافقتا على الرسالة الرسمية السورية، فإن آليات تنفيذها لم تأخذ طريقها إلى الحل بعد، لا بل طالب المجلس لاحقاً بإرسال لجان تفتيش دولية إلى كل الأراضي السورية، لا إلى المنطقة المحددة، مما يشكل انتقاصاً للسيادة السورية، استناداً إلى بيان الخارجية السورية، وتحذير روسيا والعديد من البلدان الصديقة من تكرار (المعزوفة) الكاذبة والمخزية حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، واستخدامها ذريعة لغزوه واحتلاله عام ،2003 وتبيان بطلانها لاحقاً.

وعادت المسألة للتداول الدولي ثانية، بعد وقوع أربع حوادث مشابهة في ظروف ومناطق مشابهة مرة أخرى، وغير خاضعة بعد للسلطة السورية، فضلاً عن إلقاء تركيا القبض على مجموعة من (جبهة النصرة) وبحوزتها غاز السارين، ورفضها تقديمهم للمحاكمة، أو الاستعانة باللجنة الدولية المتخصصة لمتابعة هذا الموضوع على خطورته، رغم مطالبة سورية بذلك والعديد من الدول الأجنبية.

وازداد الموضوع أهمية مع عرض القنوات السورية الإعلامية وغيرها وثائق مصورة لأوكار عصابات مسلحة إرهابية تحتوي على أكثر من 271 برميلاً من الغازات الكيميائية مؤخراً في منطقة بانياس (تكفي لتدمير المدينة بكاملها)، وتزامن ذلك مع الطلبات الرسمية السورية المتكررة إلى الجهات الدولية المختصة حول ضرورة التدقيق في هذه الحقائق.

ولابد من الإشارة هنا إلى تقرير كارلا ديل بونتي، عضوة اللجنة الدولية المختصة حول اتهامها العصابات المسلحة السورية باستخدام غاز السارين، وعدم وجود أدلة أو وثائق حول استخدام سورية لهذا النوع من السلاح. كما نشير إلى تصريحات المسؤولين السوريين المتكررة، وفي مقدمتهم الرئيس بشار الأسد، حول عدم استخدام سورية لهذا السلاح في حال امتلكته، نظراً لآثاره السلبية الكارثية على المناطق، وعلى السكان السوريين، الذين قد يتجاوزون الآلاف. كما نشير هنا إلى أن الاستخدام المحدود والبدائي الصنع لهذا السلاح الكيميائي، واستناداً إلى تقارير دولية مستقلة ومحايدة عديدة، أغلبها (غربية) تؤكد استخدامه بصيغة بدائية محلية، وليس على صعيد دولة بإمكاناتها المتطورة، وفي المناطق التي تسيطر عليها العصابات المسلحة حتى تاريخه.

هذا في الوقت الذي أعلن فيه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قبل أيام قليلة عن تقديم بلاده تقارير (80 صفحة) إلى الأمم المتحدة، تؤكد طبيعة وعملية تصنيع هذا السلاح، وعلى أنه جرى في المناطق التي تسيطر عليها المجموعات المسلحة. (موثقة بالصور والإحداثيات الدقيقة لمواقع جغرافية وللعمليات التي أجريت ونتائجها أيضاً). وأن (هذه الوثائق التي سلمت إلى المختصين الدوليين، أخذها خبراؤنا ولم يجر تداولها، إلى أن سلمت إلى المختبرات الخاصة في 10 تموز). كذلك تصريح فيتالي تشوركين، مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة (12 تموز) أن بلاده (سلمت الأمم المتحدة تحليلاتها التي تؤكد استخدام مقاتلي المعارضة السورية السلاح الكيميائي في حلب). وأضاف (أعتقد أن ما كان يقوم به زملاؤنا الغربيون هو إظهار أكثر عدد من الاتهامات ذات المصداقية القليلة جداً، ولا يسهم في ترتيب عمليات تحقيقات جدية)، لافتاً إلى أن التصريحات الأمريكية حول أن روسيا تعرقل الجهود المبذولة في مجلس الأمن الدولي في هذا المجال لا تتطابق مع الواقع. إن (بيان قمة الدول الثماني الصناعية الكبرى كان واضحاً جداً، وهو أنه يجب أن يكون هناك تحقيق في قضية استخدام السلاح الكيميائي، ومن ثم ذهاب هذا التحقيق إلى مجلس الأمن، لكن زملاءنا الغربيين يريدون أن يضعوا العربة أمام الحصان)!

وفي سياق دحض سورية لهذه الافتراءات (الغربية)، وجهت دعوة حكومية رسمية إلى كل من أكي سيلستروم، رئيس بعثة تحقيق المنظمة الدولية حول السلاح الكيميائي، وإلى أنجيلا كاين، ممثلة الأمم المتحدة لشؤون نزع الأسلحة، لزيارة دمشق بهدف إجراء المشاورات حول آليات التعاون المطلوبة في هذا المجال. وهو ما قبلت به الأمم المتحدة على أن تبدأ العمل بتنفيذه! وهذا ما يأمله الحريصون على سلامة السوريين وعدم تكرار طريقة التعاطي مع الرسالة السورية المبكرة في 19 آذار الماضي. إن سورية الحريصة على أمن شعبها، والتي تعاطت بحذر وروية مع استعادة قواتها للعديد من المناطق السكنية، بهدف تقليل الخسائر، ما أمكنها ذلك، في صفوف المدنيين، الذين استخدمتهم المجموعات والعصابات المسلحة دروعاً بشرية، أو استفادت من طبيعة تلك المناطق السكنية الجغرافية والأثرية والسكانية المعقدة، تؤكد، بإظهار استعدادها المتكرر للتعاطي الإيجابي مع جهود مستقلة وحيادية في موضوع السلاح الكيميائي على قاعدة الحفاظ على السيادة السورية، إنما تريد إظهار الحقيقة تماماً وأولاً، ومعاقبة المسؤولين عنها ثانياً، وعدم استخدامها (أسطوانة مشروخة) لتبرير التدخل الخارجي الذي فشل حتى تاريخه ثالثاً.. إضافة إلى وضع الدول الداعمة للمجموعات والعصابات الإرهابية، وبضمنهم الولايات المتحدة و(الغرب) أمام مسؤولياتهم الأخلاقية والإنسانية، بعد أن تجاوزوا مواثيق الأمم المتحدة وأنظمتها، وعجزوا عن إقامة (ممرات إنسانية آمنة) و(مناطق عازلة) و(خط جوي).. إلخ، وهم فوق ذلك يواصلون حصارهم القاسي والكارثي وعقوباتهم المتنوعة على سورية شعباً ودولة، ويسعون جاهدين إلى إنهاك الاقتصاد السوري، وتالياً كسب المعركة الاقتصادية و(الأخلاقية) مع سورية بعد فشلهم في كسبها عسكرياً وأمنياً.

أما (الائتلاف) السوري المعارض، الذي طالب بالمحاسبة والتدخل الخارجي بهدف منع استخدام السلاح الكيميائي، فالأجدر به محاولة ضبط هذه العصابات الإرهابية، وبضمنها منظمات القاعدة وأخواتها، التي تؤكد الوثائق الدولية استخدامها لهذا السلاح، إن كان قادراً على ذلك.. وهذا ما نشك فيه، بدلاً من محاولة استخدام ورقة بالية (مخزوقة) للضغط على سورية، بعد أن فشلت أوراقه السابقة في تحقيق ذلك.

الكرة الآن مجدداً في ملعب الأمم المتحدة وهيئاتها المختصة، بعيد الطلب الرسمي السوري مرة أخرى، وعليها أن تقوم بدورها، وأن تعلن نتائج تحقيقاتها، وتحاسب وتعاقب مستخدمي هذا السلاح، لا أن تطرحه بعض الدول بين حين وآخر، لأهداف غير سورية إطلاقاً.

العدد 1107 - 22/5/2024