الروائي الفرنسي باتريك موديانو.. مهووس بالذاكرة والبحث عن الذات والهوية

مساح باريس يفوز بجائزة نوبل للآداب

فاز موديانو بجائزة نوبل للآداب، هذا العام، حسبما أعلنت اللجنة الملكية السويدية، التي قالت في بيانها إنها منحته الجائزة (لفن الذاكرة الذي استحضر من خلاله مصائر إنسانية هي الأصعب فهما  كما أنه كشف النقاب عن (مفهوم) الاحتلال).

جملة تختصر فعلاً عالم موديانو الكتابي، إذ تبدو كتابته كلّها وكأنها تنويع على الذاكرة من خلال استحضاره لشخصياته المتعددة، الذين يلاحق تفاصيلهم من رواية إلى أخرى، كما أن عالم الاحتلال الذي تتحدث عنه اللجنة، ليس في النهاية سوى واقع الاحتلال الألماني لفرنسا، فموديانو ينتمي إلى عائلة يهودية عرفت الكثير من المصاعب إبّان الاحتلال النازي.

هذا التنويع على الذاكرة جعل الكثير من النقاد يتساءلون عمّا إذا كان موديانو، لم يكتب سوى كتاب واحد في حياته، بينما أتت الروايات كلها تنويعاً على الفكرة الأساسية. بالتأكيد ليس هو فقط من يتعرض لهذا السؤال الذي نجده كثيراً في تاريخ الأدب، الأجنبي والعربي على حدّ سواء.

لو حاولنا أن نجد جواباً عن هذا السؤال لوجدنا أن هناك من يكتب رواية واحدة يكرر موضوعاتها بأشكال مختلفة، بينما هناك روائيون ينوعون مناخاتهم بين كتاب وآخر. وليس في الحالتين أي خطأ، أو أي (احتقار) موجه ضد الكاتب. فكما يقال يجوز الوجهان في كتابة كهذه.

بيد أنني أميل شخصياً، لأطرح سؤالاً مفاده: هل هناك ما يصح تسميته (رواية ثالثة) تجمع ما بين المناخين معاً؟ أعتقد أن الإجابة بنعم، تقودنا إلى روايات موديانو الذي يجمع الأمور كلها معاً. فهو منذ كتابه الأول (ساحة النجمة) الصادر العام 1968 حتى كتبه الأخيرة (وقد صدرت له رواية جديدة قبل أيام بعنوان (حتى لا تتوه في الحيّ) )، يقودنا إلى هذه الفكرة الأساسية التي تعود إلى الذاكرة والتي تلاحق مصائر الأبطال والشخصيات، وفي الوقت عينه، تشعر بأن ثمة مناخاً مختلفا بين كتاب وآخر.

 

***

بهذا المعنى، لا تقول روايات موديانو كل شيء، (لأن ما يصنع جمالها هو ما ينقصها)، أي أولئك الغائبون الذين يستحضرهم في بعض جوانبهم، تلك الحيوات التي تختفي ولا يعرف عنها شيئ، وأيضاً كلّ هؤلاء المصابين (بثقوب في الذاكرة). ما يفعله يكمن في ملاحقة (سِيرهم) من كتاب إلى كتاب. قد يكون فلان مثلاً موجوداً في رواية ما، لتعود وتجده بعد روايتين. من هنا يبدو الأمر، للوهلة الأولى، أن موديانو يكتب رواية واحدة لكن (القصة) تختلف من عمل إلى آخر. بالأحرى يبدو كأنه يكمل ما بدأه منذ كتابه الأول، من دون أن يسقط في فخ (المسلسلات التلفزيونية).

إحدى خاصيات الكتابة عنده، تكمن في كونه حقاً ذلك المسّاح الطوبوغرافي، وبخاصة مسّاح مدينة باريس. مسّاح، بالمعنى الذي أعطاه كافكا لهذه الكلمة. كل أعماله تدور في هذه المدينة، لكننا في كل رواية، نجد منطقة مختلفة، وكأن تحرك الأبطال في المكان هو الذي يفرض عليهم الانتقال في هذا الفضاء. إزاء ذلك، مال بعض النقاد إلى القول، إذا أردتم أن تكتشفوا هذه المدينة وطريقة تجوالكم فيها، عليكم قراءة أعمال موديانو. أي مديح أفضل من هذا يستطيع أن يصيب الكاتب.

باتريك موديانو واحد من أفضل كتّاب فرنسا المعاصرين. ربما قلة هم الذين يختلفون على أهميته. يكفي أن تشاهد الصحف والمجلات الفرنسية كيف تحتفي بكل كتاب يصدره لتجعل منه حدثاً ثقافياً بامتياز. لكن الجميع يصرون على خجله وتلعثمه أمام الصحافة وشاشات التلفزة، ما يجعله يقف على مسافة بيّنة من (الحفلات الاجتماعية) لينصرف إلى الكتابة. (لا أعرف إن كنتم تذكرون المرة الوحيدة التي مرّ فيها في برنامج برنار بيفو (أبوستروف) الذي كانت حلقاته تستعاد على الشاشة اللبنانية، يوم ذاك لم يعرف كيف يتكلم أو يجيب، وكأنه غير ذاك الشخص الذي كتب هذه الروايات الجميلة).

 

***

ثمة حقبتان تاريخيتان تسمان أعمال موديانو: الاحتلال النازي لفرنسا وحقبة الخمسينيات والستينيات على خلفية حرب الجزائر. يمكن لنا أن نقول أيضاً إن هناك سؤالين وجوديين يلازمان أعماله الأدبية كلها: صدمة الطفولة ومشكلات الهوية. فما حاوله إذاً، من كتاب إلى آخر  وهي كتب تقع في منتصف الطريق ما بين السيرة الذاتية والمتخيل – الذهاب إلى سبر تلك المناطق الملتبسة من التاريخ الفرنسي ومن القصص الحميمة عبر سرد حيوات (مقصوفة)، عابرة، أو حتى تلك الحيوات المريبة بشكل مبهم، وهي حيوات موسومة كلها بحديد الكآبة. أمام ذلك كله، لا بدّ من أن نجد أن شخصيات موديانو الباحثة عن هويتها المفقودة وعن الذاكرة المغيبة، وعن صورة بعيدة وكأنها تضع إلى درجة الكمال جملة رينيه شار، التي غالباً ما يرددها الكاتب، التي تقول (أن نعيش يعني أن ننهي ذكرى ما).

فكرة الذاكرة هذه، نجدها مثلاً في قلب رواية (الجوهرة الصغيرة) التي لا تشذ بالطبع عن سابقاتها، والتي يتحدث فيها عن فتاة شابة تسمى (الجوهرة الصغيرة). شابة (تائهة دون رسن) في مدينة باريس. الزمن هو منتصف القرن العشرين. في إحدى محطات المترو تلتقي بامرأة ترتدي معطفاً أصفر اللون. تظن أنها أمها التي لم تعرف أخبارها منذ أكثر من 12 سنة. امرأة عجوز، نصف مجنونة، يطلق عليها لقب (بوق الموت)، كما كان يطلق عليها لقب (الالماني). تبدأ هذه الجوهرة الصغيرة  واسمها تيريز  بملاحقة هذا (الشبح). ومن أثر إلى آخر، نجدها تصعد سلالم ماضيها هي، إذ تكتشف انه مغلق بغطاء لا مرئي، نعود إلى طفولتها حيث أهملت، إلى والدها المجهول، إلى أمها الفنانة الصغيرة الغائبة دائماً والتي رحلت ذات يوم إلى المغرب من دون أن تعود، الملاجئ الكئيبة التي وضعت فيها، الشقة الكبيرة القاحلة… وإزاء هذا الشريط، ينبثق أمامنا مسقط رأسها بشكل كابوسي أكثر ممّا هو متوقع…

لم تكن تيريز سوى هذا (الطفل البارد) الذي يحاول أن يرى حياته الخاصة (بشكل أوضح). ومع ذلك، لا تستفيد شيئاً من بحثها وتحقيقها. فقط، تقع على بعض النتف، على بعض الأجزاء المتعلقة بصورة قديمة، بعنوان ما. ذلك كله يدفعها إلى أن تسقط في اليأس أكثر فأكثر. لكن وبالرغم من ذلك كله، تستجمع شجاعتها ذات يوم، وتقرر أن تصعد لتقرع باب هذه المجهولة التي تعتقد أنها والدتها. وبعد هذا المجهود الخارق، تقول (شعرت بأنني لم أتسلق السلّم، بل هبطت في أعماق بئر).

روايته هذه تجعلنا نطرح سؤالاً أساسياً: هل أن العودة إلى الذات وتفسير ماضيها، أمران عديما الفائدة، أو بالأحرى، هل سيزيدان من سوء حالتها؟ هل عليها فعلاً أن تذهب إلى آخر الذكرى؟ أليس عليها أن تقطع الجسور مثلما كانت تظن أيام الكآبة العادية؟

إن كنّا نجد تفسيراً لذلك كله، فلا بدّ من أن هوس الذاكرة عند موديانو يستطيع وبشكل مخالف، أن يجعله يفكر، إذ بما أن الماضي معيش هنا مثل (بحيرة) بلا أعماق نتورط فيها ونغرق. وبما أن (الجوهرة الصغيرة) تستمع، نجدها تعود لتهتم بطفلة صغيرة، نصف مهملة، تركها أهلها في حي جميل. كانت فتاة غنية، لكن تائهة. من هنا، سرعان ما يجمع تواطؤ الذاكرة هاتين المهملتين، وسرعان ما تفهم الجوهرة الصغيرة أنها ليست وحيدة في شقائها.

حين صدرت هذه الرواية، اعتبرها النقاد أكثر روايات موديانو سوداوية. ربما تكون كذلك. لذلك ثمة سؤال يطرح: هل بدأ  مع التقدم في السن  يشعر بأن ليس هناك أي خلاص من النضال ضد النسيان؟ هل أن جراح الطفولة لا تشفى بتاتاً ولا تندمل؟ كل هذه الأسئلة، هي في قلب عمل موديانو منذ البداية: هناك طفولته التي عاشها ما بين الملاجئ والهروب. هناك أيضا موت أخيه رودي الذي كان يكبره بسنتين وهو في العاشرة من عمره. (ومن دون أن يكون المرء قد قرأ أعمال فرويد بأسرها، نعرف أن حادثة كهذه، يمكن لها أن تجعل الحياة تقع في ذنب عقيم، أن تجعلها تبحث عصابياً عن شيء مفقود لا علاج له).

العدد 1104 - 24/4/2024