أقوال وردود وأنوار تفتقدها الساحة الأدبية

كتب الشاعر عزرا باوند في إحدى مقالاته: يبدو أنا قد فقدنا العالم المشع حيث تقاطع كل فكرة الفكرة الأولى بحدة.

مرّت على هذا الكلام عشرات السنين، والفكرة التي قد نجمع عليها هي أن شيئاً ما لم يتغير، بل تغيَّر نحو الأسوأ، إذ لا إشعاع ينير حياتنا الأدبية خاصة في السنوات الأخيرة سوى بعض المحاولات والجهود للبقاء على قيد الحياة والأمل، والقليل من الأفكار المكتوبة تقاطع وتجادل وتحاور أفكاراً أخرى، والقليل من الدراسات النقدية تجادل أخرى على أرضية الاحترام المتبادل والرغبة الحقيقية بتحقيق التقدم للأدب والثقافة، وللأسف هناك مصالح وخصومات شخصية تحارب أي محاولة للتنوير والرقي الأدبي.

العبارة السابقة لباوند تذكرنا بأحد رواد المدرسة التعبيرية وهو الشاعر كورت نبتوس الذي قال: التحرر من هذا الواقع لا بالهروب بل بمعانقته بقوة للانتصار عليه عن طريق قوة العقل وعمق العاطفة. وروادها كانوا متعددي المواهب، وأصدروا البيانات والمجلات.

في سورية يمكننا تذكر فترة السبعينات وما تميزت به من غزارة في الإنتاج الأدبي، حيث أضافت هذه المرحلة الكثير لفن القصة مثلاً، وتم نشر 170 مجموعة قصصية مع ميل قوي إلى التجريب، وتعددت الصحف ونشأت فيها حواريات مفيدة نتجت عنها أصوات ثقافية متميزة مازالت نابضة حتى الآن ومنهم كوليت خوري وهاني الراهب وعبد الله عبد.

 وفي بدايات القرن العشرين يمكن اعتبار ما حدث بين الرابطة القلمية والدكتور طه حسين على أنه شيء من الإشعاع، حيث كانت الكتابات الإبداعية والمقالات الصحفية والردود بين الأطراف المتضادة نشيطة وساخنة، فالشاعر إيليا أبو ماضي كتب قصيدة عبر فيها عن وجهة نظره في الشعر يقول: لستَ مني إن حسبت الشعر ألفاظاً ووزنا.. خالفت دربك دربي وانقضى ما كان منا. بالتالي يرد عليه د. طه حسين في مقالة: فمن الحق أن الشاعر لا يقول شيئاً في هذا الكلام لأن الشعر لا يستقيم ولا يوجد ولا يمكن تصوره بغير الألفاظ والوزن).

وفي مقدمة قانون الرابطة القلمية تحدث ميخائيل نعيمة عن الأدب الذي يريده، ونقتطف مقطعاً منها: إن هذه الروح الجديدة التي ترمي إلى الخروج بآدابنا من دور الجمود والتقليد إلى دور الابتكار في جميل الأساليب والمعاني لحرية في نظرنا بكل تنشيط ومؤازرة، فهي أمل اليوم وركن الغد.

وفي معرض تعليق د. حسين على كتابات المهجريين يقول: لكنني حائر في أمر هذا النحو من الشعر وهذا الفريق من الشعراء. قوم منحوا طبيعة خصبة وملكات قوية وخيالاً بعيد الآماد، وهم مهيئون ليكونوا شعراء مجودين، ولكنهم لم يستكملوا أدوات الشعر، فجهلوا اللغة أو تجاهلوها ثم اتخذوا هذا الجهل مذهباً.

ويرد عليه ميخائيل نعيمة: ونقم أصحاب التقليد والجمود على الرابطة فما كانت نقمتهم إلا لتزيدها قوة وحماسة، ولتنمي عدد أنصارها ومريديها ومقلديها والمعجبين بها في كل قطر عربي. ثم يبين نعيمة سر قوتها ساخراً من كل المقولات المطروحة بحقها، والتي تدور حول تأثر الرابطة بجو الحرية الأمريكية.

أيضاً وقبل عقود من الزمن وحين أراد الشاعر صلاح عبد الصبور أن يتحرر من اللغة الشعرية التقليدية إلى لغة أكثر ملاءمة للمشهد حسب رأيه، كتب قصيدة (الحزن) ليقدم صورة عن حياة تافهة، مستخدماً ألفاظاً لم يعتد الشعر العربي عليها كالشاي والنمل المرتوق، ما أثار تهكم بعض النقاد، وبالتالي ردود الشاعر التي جمعها وغيرها من الأفكار في سلسلة محاضرات تحت عنوان (حياتي في الشعر) والتي مازالت مفيدة للتثقيف حتى الآن. يقول في سياق رده على المتهكمين: إن شعرنا جدير بأن يبلغ آفاقاً أسمى لو منح الجسارة اللغوية، ذلك لأن الفكر الغني لابد له من لغة غنية تستوعبه. ثم لابد بعد ذلك من الإقدام على الألفاظ الجديدة وترويضها للدخول في سياقاتنا الشعرية. ثم يستشهد بمقطوعة لسان جوس بيرس : الشاعر معكم وأفكاره كأبراج المراقبة معكم، فليواظب على المراقبة حتى المساء وليثبت نظره على حظ الإنسان.

ما كان أجمل وأغنى تلك الأقوال والردود بين الكتاب والنقاد كدليل عل الحركة والتفاعل، وهو ما دفع بعجلة الأدب إلى السير نحو آفاق أخرى. أما اليوم فالعجلة تكاد تكون واقفة، والحوارات الجادة تنتظر من يخوضها.

لو كان باوند بيننا اليوم ماذا كان ليقول؟

العدد 1105 - 01/5/2024