«اليوم بعد الغد»… مقدمة للانتحار الكوني

اليوم بعد الغد واحدٌ من الأفلام التي تدقّ ناقوس الخطر على الكوكب الأرضي، لكنْ بلغةٍ علمية أو يراد أن تركب موجة العلم، لتبدو الأشياء ممكنةَ الوقوع من الناحية المنطقية. الفيلم يتحدث عن عاصفة ثلجية تضرب بقوةٍ النصفَ الشمالي للكرة الأرضية، النصفَ الذي تتركَّز فيه الثروات الضخمة علميةً وتقنيةً وماليةً، ويسيطر بتفوّقه الكاسحِ على العالم بأجمعه. يبدو سببُ العاصفة منطقياً على صعيد بناء السيناريو الذي كتبه بحرفيةٍ عاليةٍ عالمٌ متخصص بشؤون المناخ نال عدة جوائز عالمية هو (ستيفن رامستروف)، وقام بإخراجه ببراعةٍ فائقةٍ (رولان إيميريش) و(مارك جوردن). تختارُ العاصفةُ الثلجية ولايةَ مانهاتن في الولايات المتحدة لتكون مركز الإعصار، وتقع جميع المدن الأمريكية تحت تأثيره القاتل. ثمة بعثةٌ علميةٌ يقودها أحد علماء المناخ ويدعى (جاك) الذي قام بلعب دوره الممثلُ القديرُ (دينيس كويد) تتعرَّض للعاصفة، وهي مكلفةٌ بمهمة علمية: دراسة تيارات المحيط الأطلسي، وتنقطع السبل بها، وبالأفراد المرافقين لها، إذ يُسجنون داخل مبنى كنيسة، وتغلِق العاصفةُ عليهم أبواب النجاة، ويأتيهم الموتُ من كلِّ مكان. في داخل المبنى يضطرون لإحراق كلِّ شيء قابل للحرق يقع تحت أيديهم من أجل مقاومة البرد الشرس المهدِّد لحياتهم شريطةَ أن تبقى النار مشتعلةً وإلا فتكت بهم موجةُ الصعيق. في الخارج يحاول أفرادُ البعثة باستماتةٍ العودةَ إلى مرافقيهم الذين خلّفوهم في الكنيسة والنجاةَ بأنفسهم وسط هذه الأجواء الكارثية، حيث يتعرض أحدُهم لانهيار الصقيع تحته، ويظل معلَّقاً بالحبال التي تربطه بزملائه. وبالرغم من بذل أصدقائه غايةَ وسعهم لإنقاذه إلا أنه يقطع عليهم الطريق، ويفصل الحبل إذ أدرك أنّ إنقاذه عملٌ ميئوسٌ منه، وقد يعرّض صديقَه المربوطَ به لانهيارٍ صقيعيٍّ مماثلٍ وسط ذهول رفاقه من فعلته المؤثّرة.

 في داخل الكنيسة تتوالى عمليةُ إحراق الأشياء، وتكون الكتبُ النادرة فضلاً عن الأخشاب وقودَ النار. وفي مشهدٍ لا يُنسى يفضِّل أحدُ المحتجَزين الاحتفاظ بأول إنجيل تمّتْ طباعتُه بعد اكتشاف (جوتنبرغ) للطباعة، ويضنّ به على النار المنهومة للمزيد. الطريفُ في الأمر أنّ من يقدم على ذلك رجلٌ ملحد، وحين يُسأل من رفاقه عن تبرير عمله يقول بأنه يرفض التخلّي عن الشاهد الوحيد المتبقي على الحضارة الغربية. هذه اللعبةُ الذكيةُ تتقن السينما الأمريكية في كثيرٍ من الأفلام العزفَ عليها كلونٍ من الدعاية للحضارة الغربية، وتبدو خارج سياق الفيلم أو ربما النصّ نفسه، لكنّ الإيديولوجيا الغربية لاتغفل عن توظيفها لحسابها. تنشأ قصةُ حبٍ خجولة بين ابن جاك (جيك جلينهل) وصديقته الشابة (إيمي روسوم)، ويتبين أنّ الفتاة مصابةٌ بجرحٍ في ساقها مهدِّدٍ بغرغرينا قاتلة.

هنا يتدخَّل الكتابُ مرةً أخرى لكنْ لينقذ الموقف، حيث تقرأ إحدى المحتجَّزات وصفاً للحالة في أحد الكتب التي نجتْ من الإحراق، وطريقةً للعلاج تعتمد على البنسلين. يتطوّع الفتى العاشقُ مع اثنين من زملائه للقيام بمغامرة جلب البنسلين من إحدى السفن القريبة التي حوَّلها الصقيعُ إلى مدينة مهجورة، ويخاطرون بأنفسهم في مواجهة مجموعةٍ من الضباع الجائعة، ومواجهة ما هو أشرس من الضباع: الصقيع المميت. ينجو الرفاقُ الثلاثةُ بأعجوبة، وتنجو الفتاة بفضلهم من الموت. الرمزيةُ في الكتاب واضحةٌ تشير إلى أنّ الحضارة لم تقمْ إلا على الكتاب، وأنّ إحراقه يعني أنّ الحضارة في النّزع الأخير. في غمرة الأحداث يموت الرئيس الأمريكي بسبب إصراره على البقاء في نيويورك ومواجهة الموقف؛ ليتولّى نائبُه تسييرَ دفَّة الحكم، فينقله الجيش إلى مكانٍ آمن خارج البلاد، وينقذ معه من يتمكَّن من إنقاذه. لا يستطيع المشاهِدُ أن يُقدِّر فظاعة الحدث وهوله إلا عبرَ الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية، حيث يبدو النصفُ الشمالي من الكرة الأرضية قد غُطِّي بكفنٍ أبيض حجبَ كلَّ شكلٍ من أشكال الحياة الممكنة فيه. لروعة هذه المَششاهد التي لا يتقن صوغَها سوى الفنِّ السابع حازَ الفيلمُ على جائزة الأكاديمية البريطانية للأفلام لأفضل مؤثّراتٍ بصرية. من الناحية العلمية البحتة يُخفق الفيلم في إقناع علماء المناخ الذين علَّقوا على الفيلم، بأنَّ ما جرى فيه ممكنٌ من الناحية العملية؛ ذلك أنَّ التغييرَ المناخي على هذا النحو الشامل من الكرة الأرضية إذ أحالها إلى العصر الجليدي الأول، يسبقه إنذارٌ قبلَ وقوعه يستغرق عقدين من السنين على الأقل، بينما يذهب الفيلم إلى أنّ الإنذار تمَّ قبل أسبوعين فقط. فالدراما التي سداها ولحمتها الخيال دائماً لها وجهةُ نظرٍ أخرى، كما أكَّد مخرجُ الفيلم (رولان إيميريش)، ذلك أن الإثارة وجني الأرباح من أهمّ غاياتها بغضِّ النظر عن المصداقية العلمية، ومع هذا فقد لفت الفيلمُ أنظارَ علماء المناخ في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا، وشكّل مادةً بحثيةً في منتهى الجديّة بالنسية إليهم، ممّا يذكّرنا بدور قصص الخيال العلمي التي برع في كتابتها (جول فيرن)، وحوّلتها السينما إلى أفلامٍ رائعةٍ كانت مقدمةً لظهور الكثير من المخترعات التي شهدها عصرُنا الحديث كعنوانٍ للتقدّم فيه كالغواصة والصاروخ وسواهما. وقد يكون الأمرُ هنا مختلفاً؛ فالفيلم ليس من نوع التنبّؤ العلمي البهيج، بل من النوع الكارثي الذي يبعث الخوف في أوصالنا، وينبِّهنا بشدةٍ إلى وجوب تدارك الأخطار المحدقة بكوكبنا قبل فوات الأوان نتيجة سوء استخدام موارده من قِبل الدول الصناعية الكبرى التي تُعميها مصالحُها الماديةُ عن استبصار المستقبل المشؤوم لهذا الكوكب الجميل الذي ثبت، حتى الآن، أنَّه الكوكبُ الوحيدُ الصالحُ للحياة في هذا الكون الفسيح الممتدّ. وهذا يقودنا إلى البعد الإيديولوجي للفيلم الذي لم يكن غائباً بالتأكيد عن مخرجَيْه، فالولاياتُ المتحدة الأمريكية تبدو المذنبَ والمسبِّبَ الأكبر لهذه الكارثة، وعلى عاتقها تقع مسؤوليةُ دمارِ العالم، إذا حصل ذلك، بسببٍ من نزعتها الاستهلاكية الوحشية، واستهتارها بالحياة وقوانين التوازن الطبيعي. ولا يلمِّع صورتَها، كما حاول الفيلم أن يفعل، اعترافُ أعلى سلطةٍ فيها (نائب الرئيس الأمريكي) بالتقصير، وتأنيب الضمير في تلك الرسالة الاستعطافية التي وجّهها إلى الشعب الأمريكي، وإلى شعوب العالم، شاكراً، معبّراً عن فتح صفحةٍ جديدةٍ من التعاون الأممي بين أغنياء العالم وفقرائه.

هذه الرسالةُ قد تضفي الصفة الأخلاقية على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها لن تكون مقنعةً لأولئك الذين ابتلوا بهذه السياسة وعاينوها عن قرب. وإمعاناً في تلميع هذه الصورة القبيحة يأمر نائبُ الرئيس القواتِ الجوية الأمريكية بالبحث عن أفراد البعثة المحتجَزين في العاصفة الثلجية؛ فتنطلق المروحيات، وهي من النوع نفسه الذي شهدها العالم كلُّه تقصف المدنيين العزَّل في فيتنام، وأفغانستان، والعراق، وكلِّ بقعةٍ من العالم تدخَّلت فيها أمريكا بذريعة مكافحة الإرهاب. وبالطبع تتمكن الطائرات من إنقاذ جميع من بقي على قيد الحياة من أفراد البعثة في الوقت الذي تبدأ العاصفةُ بالانزياح، والشمسُ بالشروق، والكارثةُ المناخية بالأفول. إنها لحظةٌ رائعةٌ حقّاً نراها بواسطة الأقمار الصناعية، تعيدُ الأمل إلى النفوس القانطة في الوقت الذي تثير الشكَّ في حقيقة استفادة الولايات المتحدة الأمريكية من هذا الدرس القاسي، واستعدادِها لبدء مسيرةٍ جديدة تكفُّ فيها عن لعب دور شرطيِّ العالم القذر، ووحشِه الأسطوري النَّهِم المستعدِّ لابتلاع الموارد، واستهلاك الطاقة، وتدمير الحياة البيئية، بل الشروط الطبيعية لحياة الكائنات الحية، وتسعيرِ الحروب الصغيرة والكبيرة من أجل تصريف الزائد من الأسلحة، وجني المزيد من المال الملطّخ بالدّماء. من المؤكَّد أنّ المشاهِد سيقرأ ببصيرته هذا كلَّه، ويرى في سيناريو الكارثة المناخية التي عاش معها في الفيلم 124 دقيقةً على الرغم من أنَّ مقاربتَها للحقيقة العلمية بعيدةٌ إلى حدّ ما، أقول سيرى فيها مقدمةً لانتحارٍ كونيّ تسعى إليه دوائرُ صنع القرار المالي والسياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، ولن تقنعه ابتساماتُ الممثلين البلهاء الناعمون بالأجور الضخمة التي تغدقها السينما الهوليودية عليهم؛ لأنَّ الأمرَ أخطرُ من مجرَّد فيلمٍ يمرُّ بالذاكرة، ويمتع الحواسّ. إنه قلقٌ من انتحارٍ كونيٍّ قريب.

العدد 1107 - 22/5/2024