موديانو.. كاتب سيرة أشباحه

هناك طريقتان للنظر في عمل باتريك موديانو، والذي لديه اليوم ثلاثون رواية، وقصصٌ، وسينارويوهات (بما في ذلك  فيلم لاكومب لوسيان، الذي صوّره لويس مال) ،وقد نجد إعادة الكتابة اللانهائية للنص نفسه أشبه بنميمة ، أو بالأحرى، والأصح، كتنوع موسيقي حول موضوع هوية غير محددة وشباب ضائع، محاكاة واحد من عناوينه الحديثة، في مقهى الشباب الضائع، المُدرج في هذا المجلد الذي يجمع عشر (روايات) مسبوقة بمقدمة للكاتب وسجل ثمين لمبحث الأيقونات.

الروايات؟ ماهي الرواية،  يتساءل كاتب (فيلا حزينة) الذي فتح هذا المجلّد وأتبعه بكتابة سيرة ذاتيه بامتياز (دفتر عائلة)، تضم أيضا (نسب)، وهو بالنسبة له، سيرة ذاتية ممتزجة بالخيال، إذ توحي لنا بأننا نقرأ شهادة؟ كي نجيب على هذا السؤال نتعرف  إلى حياة موديانو، الذي ولد في عام 1945 في بولوغن-بيلانكور، من أم بلجيكية، ممثلة كوميدية، وأب فرنسي من أصول يهودية (لا يبدو هذا الأخير مهتما بهذه الهوية)، وهو يقوم بنشاطات مبهمة، غالبا تحت الاحتلال الألماني حيث كان يرتاد عالما غامضا، عمل الروائي بين ماضٍ مضطرب للأب، وسنوات الستينات، حيث عاش الشاب الصغير، بعد أن فقد أخاه (رودي) باكراً، نوعاً من الإهمال والوحدة المؤلمة التي تفسر إلى حد كبير لجوءه إلى نوع من الكتابة ذات النغمة الواحدة، التي هي أشبه بوسواس: إنه يظهر عالما صُنع من شخصيات مهملة، بأسماء غريبة (جان كورموانديه، بابو بدراوي، جورج ويهو، رنتيه مينث، ستيوبا دو دجاغوريو، هنري سوروكا، ألكسندر سكوفي، غي دو فير)، ذات هوية مشكوك بها غالباً، وبنشاطات دونية، وأيضاً لجوءه إلى (أناس شجعان) منعزلين، رحالين، شغوفين بالأدب، محاطين بنساء غامضات- جميع تلك الشخصيات تريد أن تتجاوز أنواعا من الأوهام تنغص عصراً متمرداً، حيث تحافظ على أرقام الهاتف، أسماء الشوارع، (الأحياء الضائعة) (كتاب آخر لموديانو)، ينتهي هؤلاء الأشخاص بأن يختلطوا مع بعضهم بعضا،  فينطلق أحدهم  مع ذلك ليطاردنا على الدوام، الأكثر مأساوية هو (دورا برودر)، شابة اختفت في حملة اعتقالات، عام 1942 الأكثر اضطراباً (إيفون) في (الفيلا الحزينة)، لكي لا نتحدث عن الروّاة أنفسهم، ثنائيو الهوس ومتفحصون لكاتب رواياته هي محاولات ليقول من خلالها ما كان-وما هو اليوم، تشكل جميع رواياته  دون شك وحدة متكاملة، والكتاب ذاته، يعدّ قطعة كبيرة من الحرير تحركها ريح الذكريات بين الغروب وإشعاعات ساطعة ومتموجة في آن واحد، سمات محددة وغائمة لوجوه هاربة. لهذا، أمام خيار تعسفي لا يمكن تجنبه ، إذا أسفنا أنه لم يتجسد في هذا المجلد كتب مثل (فتيان شجعان جداً، (شباب)، (الحي الضائع)، (مجاهيل)، (الجوهرة الصغيرة)…، فيجب بشكل ما قراءتها  بصمت ومحاصرتها بكتب قدمت هنا بعناية.

إن هذا الأسلوب المحاصر بالوساوس يجعل عالم موديانو قابلاً للاعتراف فوراً وأخاذاً، يشبه إلى حد ما عالم سيمون، حيث يقربهما أسلوب الشخصيات ذات القطيعة الاجتماعية وكتابة ذات تفاصيل دقيقة  تعرف أن الهدف الأكبر للروائي يجعلنا نشعر أن الزمن يشكل الكائنات، الأمكنة والأشياء.

بعيدا عن إشكالية السيرة الذاتية، هذه الكتب ذات جمل مختصرة، أحيانا متعثرة، وإلا فهي خرقاء  تقلد  شخصاً متلعثماً تقريباً يشبه الكاتب (الذي يعترف في مقدمته أن سيكون محبوبا من قبل شخص ما (موسيقي نقي)، كنيرفال أو ريك)، توجهنا هذه الكتب نحو مرآة حيث  نتفحص ماضينا الخاص، حجرة ثياب طفولتنا، شبابنا الضائع، أوهامنا، غموضنا، حادثنا الليلي، أزهار أنقاضنا، كما لو أن الروائي ، اليوم، هو ما كان: الحيرة المرتعشة بين الواقع والثنائية  التي تقترحها الكتابة ولا يمكن استبدالها.

كتبه ريشارد ميليه

عن LOrient Littéraire

العدد 1107 - 22/5/2024