جريان الأفكار

كيف يمكن للأفكار أن تغتني وتنتشر دون أن تتعانق وتتلاقح؟ وكيف لها أن تجري على الألسنة دون مناخات تتيح لها أن تطرح وتوضح بحجج وبراهين وتجارب حياتية عيانية؟

وكيف تغدو الحياة أمتع دون أن نغني معارفنا بخبرات الشعوب ومآثرها وحكمتها؟

هذه التساؤلات استدعتها الأفكار والتجارب التي جمعها الروائي البرازيل باولو كويللو في كتاب عنوانه (مثل نهر يجري) ضمّنه مقتطفات من قراءاته ومشاهداته في ترحاله حول العالم، وحواراته مع قراء وناشرين وكتاب وإعلاميين، ومع أناس عاديين لهم تجارب حياتية لافتة.

ترجم الكتاب عن الإنكليزية منير الرفاعي، وصدر عن دار بعل بدمشق عام 2010 وضم فصولاً كثيرة، يقرأ كل منها في ثلاث دقائق، لكنها عميقة ومكثفة، ويمكن أن تكون فكرتها موضوعاً لبحث أعمق. ومن عناوينها: حكاية قلم الرصاص ـ النظر إلى حدائق الآخرين ـ الجمرة الوحيدة ـ العصي والقواعد  ـ إلى امرأة هي كل النساء ـ ترميم شبكة العنكبوت ـ عش أسطورتك الخاصة ـ الهدم وإعادة البناء ـ السفر بطريقة مختلفة ـ كاتب البرازيل العظيم ـ دموع الصحراء ـ رحلة حول العالم بعد الموت ـ الجوهرتان – (شكراً) أيها الرئيس بوش ـ قانون جانت ـ العاصفة تقترب.

كويللو، صاحب الروايات التي ترجمت إلى سبعين لغة، وصدرت بملايين النسخ ومن عناوينها: أرشيف الجحيم ـ فارس النور ـ الخيميائي ـ الرابح يبقى وحيداً ـ فيرونيكا تقرر أن تموت، اختار عنوان كتابة من قصيدة للشاعر البرازيل مانويل بانديرا، تقول: كن مثل نهر يجري / صامتاً في الليل/ لا تخشَ العتمة/ تأمل النجوم تتلألأ في صفحة السماء/ وتأمل بسرور أيضاً/ في أعماقك الساكنة.

وصف كويللو رحلته إلى عالم الكتابة في المقدمة، إذ أبلغ أمه وهو في الخامسة عشرة أنه عازم على أن يصبح كاتباً، لكن أمه سألته إن كان يعرف معنى أن يكون المرء كاتباً، وحين أجاب بسذاجة: إنه يكتب كتباً، حاولت ثنيه عن هذا الاختيار، وقالت له: أبوك مهندس ناجح، ويستطيع أن يكتب كتباً، وعمك هارولد طبيب، ويستطيع الكتابة في أوقات فراغه، فلم يتراجع الفتى عن خياره، وراح يستعصي معنى أن يكون المرء كاتباً، وقدم صورة ساخرة لأولئك الذين يتظاهرون بأنهم كتاب، فيجلسون في المقاهي، بشعور منكوشة ومزاج عكر، ينقدون سواهم من الكتاب، ويرددون مفردات ومصطلحات غريبة.

 هذه المقدمة المرحة تشد القارئ إلى معرفة أسرار الكتابة، ومتابعة تفاصيل رحلاته إلى أقاصي المعمورة، والاطلاع على طرائقه في جمع الحكم والنوادر، وأسلوبه في الحوار، وإجاباته الذكية عن الأسئلة. تحدث كويللو عن مشكلات معاصرة، وتشوهات كثيرة أحدثتها الحروب والأطماع وكراهية الآخرين، ورأى أن الناس ينشدون العدالة، ويستطيعون تحويل هزائمهم وخيباتهم إلى لحظات انتصار وفرح.

وذكر كويللو أسماء الذين ساندوه، وقدموا له خلاصة تجاربهم الروحية أو الثقافية والاجتماعية: زوجته وابنته، ومديرة أعماله، وأصدقاؤه في البرازيل وإسبانيا وناشرو كتبه في باريس ولندن ومدريد، وإيران وروسيا وأستراليا وبلغاريا والهند ومصر والصين. وإيطاليا وألمانيا وسواها من البلدان التي ترجمت كتبه إلى لغاتها، أو دعي إليها لإلقاء محاضرة أو لحضور معرض كتاب.

بعض فصول الكتاب أقرب إلى حكايات الجدات، وبعضها أقرب إلى النوادر الطريفة، وأكثرها يروي تجارب غنية وعجيبة: وأمثلة ذلك حكاية الجدة التي حاورت حفيدها، وذكرت له خصال قلم الرصاص، وأهم ما فيه ليس شكله الخارجي بل الفحم الذي في داخله، وهو يترك أثراً، ويتيح لمن يكتب به أن يمحو بعض ما كتبه.

والنصيحة التي أسداها إلى المعلمين بأن يحثوا الأطفال على أن يطرحوا الأسئلة التي تشكل عليهم إجاباتها. وهناك نصائح تتصل بتسلق الجبال وتعلم الرماية بالقوس والسهام، وهناك أساطير مشتركة بين شعوب كثيرة، وطقوس متشابهة بين مناطق عديدة، ويظن أناس أن هذه الأسطورة تخصهم دون سواهم.

رأى كويللو في دعاء كتبه في ثمانينيات القرن الماضي على غلاف ديوان شعري له، ورآه بعد عقدين مطبوعاً بطريقة أنيقة ـ وكان قد نسيه ـ أن الشك والفعل والمصداقية والحماسة والحلم أشكال من الدعاء، وهي تقود خطوات المرء إلى تحقيق هدفه. ص 114.

وقدر كويللو أعلام الأدب البرازيلي، ومن بينهم الشاعر بانديرا، والروائي جورج أمادو، وقد تأثر كثيراً حين هنأه أمادو بعد حصوله على جائزة أدبية من فرنسا، دون أي شعور بالحسد أو التجاهل، كما هي الحال عند بعض الكتاب، إذ يشعرون أنهم أحق بالجائزة ممن حصل عليها.

وذكر حكاية دعوته إلى حفل تسليم جائزة نوبل للسلام للناشطة الحقوقية الإيرانية شيرين عبادي، وكلف بإعداد كلمة مدتها دقيقتان، ومما قاله: إلى المرأة التي أرضت الجياع والظمآنين للعدالة، وجعلت حال الظالم أسوأ من حال الذين ظلمهم، وضمّن كلمته قولاً لحافظ الشيرازي قال فيه: حتى سبعة آلاف سنة من الفرح لا يمكنها أن تبرر سبعة أيام من الظلم! ص 77.

قص كويللو حكايات طريفة عن أناس عاديين، يعيشون ويتأملون، ويمنحون الآخرين شعوراً بالطمأنينة، (الصبية التي تعزف على البيانو، دون أن تنتظر جمهوراً أو تصفيقاً)، والعجوز التي تغني، فيتجمع آخرون ويشاركون في الغناء، فتتخلص من الشعور بالوحدة).

أما حكاية فيرا أندرسون فإنها تشعرنا بإحساس إنساني حالم، إذ يريد كل منا أن يطوف العالم كله، ويكتشف، ويقدم نفسه للآخرين، ويستزيد من المعارف والخبرات، وفيرا أندرسون كانت مصابة بمرض عضال، فأوصت ابنها أن يرسل رماد جثمانها بعد إحراقه في أكياس صغيرة إلى الولايات الأمريكية الخمسين، وإلى ممثليات الأمم المتحدة في الدول الأعضاء فيها.

ونفذ الابن الوصية، وأقيمت للراحلة جنازات في المدن التي وصل رمادها إليها، وبهذه الطريقة استطاعت أن تطوف العالم، وتظهر أنه واحد، مهما تباينت اللغات والطقوس والثقافات والأمزجة، لأن احترام الآخر، وإشعاره بالتضامن في المحنة يزيح التباينات جانباً، ويتيح للمحبة أن تعمر القلوب.

ورسالة كويللو إلى الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش بعد غزوه العراق، نشرها على موقع إلكتروني بالإنكليزية، وقرأها خمسمئة مليون شخص، هي مزيج من السخرية والإدانة الشديدة للأكاذيب التي جلبت الكوارث، وللوعود والتعهدات التي تكشّف نقيضها بعد وقت قصير، وعنوان الرسالة: (شكراً أيها الرئيس بوش) ص 214.

ويرى كويللو أن دور الكاتب هو الوقوف إلى جانب المهمشين والمظلومين والعاملين المنتجين بسواعدهم وأدمغتهم، والذين لا تحفل بهم وسائل الإعلام، ورغم أنه غدا من المشاهير، الذين تدرج أسماؤهم على قائمة المدعوين لحضور مؤتمرات واحتفالات عالمية، إلا أنه لم يغادر موقعه ودوره، في مساندة الضعفاء والمحاصرين بمشاعر الخيبة، وشد عزائمهم كي يحولوا هزائمهم إلى انتصار ناجز.

لغة كويللو في سرد ذكرياته أو في بناء معماره الروائي رقيقة تنساب مثل مياه جدول، تعرف هدفها، وهو رفد نهر دائم الجريان، وخيره العميم متاح للجميع، وإن كان همسه للكتاب والشباب بتعلم تسلق الجبال، والتحلي بالصبر والمثابرة في حرفة الكتابة قد لا يرضي طموح المتعجلين منهم، وهو يصدقهم النصح لئلا تزل أقدامهم وتخيب آمالهم!

العدد 1104 - 24/4/2024