«زيوس» و«كاسيوس» وبعض من نَجْوَى…

ــ 1ــ

 (زيوس) العظيم الذي استوى على عَرْشِه في أقصى الغرب، هو الآن، وفي كلِّ آنٍ، يتململ، يتذمر، وينقّب، ومعه بقية الأَرْبَاب والرَّبّات، في كتب التاريخ القديم منه، والجديد والمعاصر، ويستنفر آلهة الحرب والخراب، وكلَّ الغرف السرية، والعَسَس، وقوات النخبة… ويلوذ بالمفكرين الاحترافيين والمنظرين والمحللين الامتثاليين والعملاء والتابعين من جميع الأجناس والأصقاع، ويتحَصَّنُ بالأحذية العسكرية التي تعتلي الرقاب، وتسدُّ الأفواه، وتطفئ الحياة غرباً وشرقاً، شمالاً وجنوباً وبألوان الطيف… لعله يجد جواباً شافياً حاسماً عن سؤالين:

 ما السبيل الناجع الذي يوصل إلى تدمير الدول المارقة، (المتطرفة) ومحورها الشرير الذي يرفض رفضاً قاطعاً (بيت الطاعة) (..؟!).

 وما الوسائل التي تؤدي إلى تثبيت دعائم (المعارضات)، الجماعات، الدول (المعتدلة) ومحورها الخيّر (..؟!).

 ياربَّ الأرْباب..! يازيوس ياقاهر الشعوب المغلوبة على أمرها..! يامَن تحطّم الأوطان والحياة… مالكَ، في ملكوتكَ الأعلى، ترعدُ، وتزبدُ، وتقيمُ الدنيا ولا تقعدها..؟

ماذا تريدُ بعد..؟

أريد كومضات الشعر الرمزي وخلجاته أنْ ينتقل النظام العالمي الجديد إلى مرحلة أكثر قدرة على التدمير والقتل وسفك الدماء… وأنْ تُبنى (نَطّاحات) تعلو السحاب في كل البلدان تكون مهمتها الأساسية الدائمة (نطح) شعوب هذه البلدان حتى الموت؟!

أريد (عدالة بلا حدود) و(ديمقراطية بلا حدود) و(حرية بلا حدود) و(عولمة متوحشة بلا حدود)؟! وأريد (طائفية ومذهبية وعرقية وقبلية وعشائرية وفئوية بلا حدود) و(معتقلات وحصارات بلا حدود) و(تقطيع البلاد والعباد بلا حدود)؟!

وماذا تريد أيضاً؟

أريد حمامات دم لا مثيل لها، لا في الدول (المتحضرة) ولا في الدول (المتوحشة) ولا حتى في الدول المنقرضة والبائدة..؟! كما أريد من الحياة الإنسانية أنْ تتفحّم بآخر ما تفتّق عنه العقل التقني/العسكري المجرم..؟ وبالقدر نفسه أريد أنْ تتحوّل صوفية (جبران خليل جبران) ورومانسيته الحانية إلى جحيم أرضي يحرق فيض أرواحكم، ويقطع تدفق أعماركم..؟!  وفوق هذا وذاك أنا (زيوس) العظيم أريد قدس الأقداس (إسرائيل) و (النفط) إلى جانب شراء الذمم.. وتخريب القيم.. وخيانة الأوطان واغتيالها.. وذبح الضمائر والقلوب والعقول.. وتحويل الدم البشري عموماً، والدم العربي خصوصاً إلى (ورق أخضر) أخّاذ في كيمياء البورصة، واقتصاد السوق، وصندوق النقد الدولي، والتجارة الحرة، وشرك (الشراكة)…

ــ 2ــ

(كاسيوس) العربي الناصر، العاشق للحياة، الناهض… يصيح بنا وعلينا صيحة حق جوهرية: مشكلتنا الأساسية الكبرى ليست مع (زيوس) المتربّع على عرش الإمبراطورية الأمريكية، وليست مع الكيان الصهيوني الاستيطاني (الكولينيالي) العنصري… والغرب الاستعماري. مشكلتنا الكبرى مع الرجعية العربية الظلامية التي عُرفتْ تاريخياً بدورها الوظيفي التخريبي العميل… ومع النظام العربي الرسمي، ولا سيما (المعتدل) منه بالدرجة الأولى، هذا النظام التابع الذي فرّط بكل شيء، وحوّل البلاد إلى (مزرعة)، وحوّل (رعاياه) إلى (أقْنان) وكائنات بيولوجية (..؟!). ويكتب (كاسيوس) العربي بقلم (محمد الماغوط): (نعم.. كل قصيدة، وقيثارة، ولوحة، أو زهرة، أو عصفور، أو سيمفونية، أو قصة حب ، أو أصابع متشابكة، أو ذكريات، أو صداقة، أو وفاء لمبدأ، أو تراث، أو طفولة، أو عالِم متفوق، أو طالب مجد، أو شاعر متميز.. وكل ما هو جميل ونقي وحنون… في هذا العالم هو هدف عسكري ممهور بتمثال الحرية).

 ــ3ــ

 أيُّها التوْءَمُ… يامَنْ يخضرُّ المكان بكَ، ويستريحُ الزمان في مقلتيكَ، ويزهر الشجر فوق راحتيكَ… إنّي أحبكَ… إنّي أحبكَ لأنّني مخلوق من طينتكَ، فأنا منكَ وأنتَ منّي، وكلانا مغرم ومسكون بالبراعم والورد اليانع والياسمين، وحبّات المطر، ورائحة الأرض، ومفردات الوطن الذي يعرّش في شغاف القلب، وفي ملكوت النهى… وكلٌّ منّا يرضى التقاط العشب وأكله على ألّا يقوم بخدمة الملوك… وكلٌّ منّا يرجو اللحاق بالسماء على أنْ يقدم آيات الحبّ والطاعة والتسليم ل (قرد) زبيدة (…  216 ه) زوج هارون الرشيد وأُمُّ الأمين… وكلٌّ منّا لو عَلِمَ أنّ الماء يفسد شهامته، ومروءته، وكرامته، ونخوته، وعزّته، ماشربه قَطُّ…

 أيُّها التوْءَمُ… أيُّها الحاضرُ الغائبُ، أَعْرفُ أنّ الحزنَ الجليل، والشجنَ الإنساني العميق يعتريان روحكَ المترعة بالخصوبة مذْ اتّحدتْ رمال الصحراء بدموع (هاجر) (..؟) إلى عمركَ المسروق، وفؤادكَ المحروق، وفضائكَ المجهول، وأحلامكَ المكسَّرة،وخطواتكَ المقيَّدة… وأعْرفُ أنّكَ مَللْتَ وكَللْتَ وعبثاً حاولتَ ماحاولت، وصدّقتَ ماصدقتَ وأنّكَ تريدُ إغلاق هذا الشباك، وأَنْ ترتاحَ من هذا الوجع الوجيع… وإلى ذلك أَعْرفُ أنّ دهركَ ينشطر، كحياتكَ الشقية، إلى نصفين ونيّف: النصف الأول يكونُ مهموماً مغموماً، ومستوراً مسحوراً… والنصف الثاني يكونُ منهوكاً، مكلوماً، واسع الفجوات… أما النيّف فيكونُ مهتوكَ الستر، ومقصوم الظهر، ويتيم الأب والأم والأخ والأخت والعالمين أجمعين…

 توْءَمي.. لاتخفْ من الفاقة المقيمة، والمفارقة الأليمة واخرج خروجاً مطلقاً، لا أسف عليه ولاندم، من الظلمة إلى النور ؛ من القبيلة والعشيرة والطائفة والعصبية والفئوية والمذهبية… وادخل بيتكَ الآمن الأمين: الوطن… واخرج من (الحشود) إلى المواطنة… اخرج من دائرة (الآخر) وكذبه ومُخَاتَلته وخَطَله… ولاتكن تحت وصاية أحد، ولا عباءة أحد كائناً من كان (…) لا تقنط، ولا تبكِ بكاء العاجزين.. بكاء آخر ملوك الطوائف في آخر مملكة عربية في الأندلس، ذاك المجد الضائع..؟ كن أنتَ.. أنتَ، واقبض على وطنكَ وشرفه وكرامته مثلما تقبض على شرفكَ وكرامتكَ… ولاتكن رماداً ! كن ناراً مباركة مابقيت على قيد الحياة، واجعل قِبلتكَ الحرية والحق والجمال، وقف كالطود في وجه القيد والظلم والقبح، ولاتعرْ أصابعكَ للضماد… فالعدل، والحرية، والفرحة، والبهجة الحقيقية، اللامستعارة، والزمن الأخضر قادمون، وإنْ طال المسير.

العدد 1105 - 01/5/2024