حدث في يوم المسرح

نازفٌ جرحنا السوري، مؤلم وموجع لولا الأمل وصلابة الأجساد التي تعودت وتعلمت كيف تواجه المحنة بإرادة وثبات، ففي كل ثانية ودقيقة وساعة حدث، وفي كل يوم أحداث كثيرة، وقد يحدث في يوم المسرح على الرغم من أهميته الثقافية والفنية أن تسقط قذيفة غادرة على منزل مقابل للمسرح مما يودي بصاحبته التي قامت بدورها الممثلة (آلاء مصري زادة)  للنزوح إلى المبنى المجاور حاملة ما تيسر لها من فراش وطعام متواضع، حيث تضع تلك الأغراض في غرفة (الكونترول) والإضاءة وتنام هناك مستخدمة الخشبة والصالة وأمكنة أخرى في حركتها وتجوالها. ولعل هذا ما يسبب الصدمة لمدير المنصة أو الموظف عوض (قام بدوره الممثل عمر عنتر).

بين امرأة لا تعرف شيئاَ عن المسرح وعاشق حقيقي له يحتدم الصراع مما يدفع بالرجل إلى طردها، لكنه يتراجع عن ذلك، فهو أيضاً مهجرٌ مجروح من هذه الظروف حيث سكن مؤقتاً عند شقيقه ثم غادره سريعاً بسبب ضيق الحال والمكان ليتخذ من مستودع المسرح سكناً له. هذه باختصار حكاية المسرحية التي عرضت مؤخراً على خشبة مسرح القباني بعنوان (حدث في يوم المسرح)، وهي من تأليف وليد إخلاصي، وإخراج المهند.

 بداية نقول بأن المادة النصية حتى لو كانت هشة وضعيفة أو مجرد هيكل لنص أو قصة وقصيدة فهي بحاجة لتعب ودأب ومعالجة درامية جادة تجعل من الحالة الفكرية أساساً لتمتين البناء والنهوض به، وهذا ما كان ينقص العرض خاصة أنه من النوع التجريبي، ما يعني أن أمامه آفاقاً واسعة لا تحد، لكن العرض فعل عكس ذلك وضيّق الرؤية وجعلها محصورة في زوايا محددة رغم يقيننا بقدرة الممثلين  (عمر وآلاء)، وتلك الطاقة الشبابية لم تستثمر بالشكل الصحيح، وربما تنبه المخرج وطاقمه الفني لوضع بعض التفصيلات الصغيرة مثل مشاهدة عوض لحبيبته وهي تخونه مع مخرج أحد العروض السابقة، وتناوله مع المرأة التي سكنت في المسرح طبخة الكشك الشعبية، ومن ثم محاولته تدريبها لتكون ممثلة تؤدي دورها على الخشبة، لكن هذه المحاولات بقيت مجرد تسمية فقط، وزادت في رتابة العرض وجعله على رتم واحد وإيقاع ثابت تحرك في لحظاته الأخيرة حين ذهب الرجل أو الممثل ليستقبل زميله عند المفرق، ويترك المرأة المهجرة في حالها. والفن ليس شيئاً آخر سوى الكمال في تقليد الواقع على رأي بارت، لذا نريد منه أن يدرك مهمته في مادته لتشبه في لحظتها كما يقولون زفة العروس، فالعروس لم تكن في مثل هذا الجمال قبل الزفة أو بعدها، غير أن المسرح ليس فناً أدبياً كما يرى عبد الفتاح قلعه جي، بل هو تركيبة فنون تخضع حين تعبر الخشبة لشروط مسرحية، من ناحية أخرى يعلم الذين يشتغلون في المسرح بأن عمل الممثل الواحد أو الممثلين هو من الأعمال الصعبة ذلك لأننا بحاجة كي نملأ الفراغ المسرحي واستثمار المكان بشكل أمثل، وفي المقابل هناك الكثير من الأعمال التي نجحت وحققت انتشاراً واسعاً على هذا الصعيد، ونحن بالمطلق مع مقولة المخرج: (في المسرح لا يوجد أبطال أو قديسين ولا يحتاج إلى أنبياء أو آلهة ، في المسرح ممثلون وجمهور وفكر يعمل فقط) وهذا ما نريده بالضبط، الممثل الإنسان الذي يغوص إلى الأعماق ثم يتجلى في أقصى حالاته الجسدية والروحية، وبالتالي ينتشل المتفرج ليكون معه حساً ونبضاً، وجعله يجيب عن الأسئلة ويحاول إيجاد الحلول الممكنة أوالبحث عنها في مخيلته على الأقل، وبالتالي يمكن أن نسأل: ألم يكن هناك بديل عن استخدام تمثال أبي خليل القباني، الذي حاولت المرأة كسره أكثر من مرة نكاية بالموظف الذي يريد طردها، ثم أقرت فيما بعد بأنها استخدمته في الجلوس وكبس (المكدوس)؟ والتبرير، حسب زعم العرض، بأن المرأة جاهلة لا تعرف عن المسرح شيئاً، ولا يبتعد منزلها عنه كثيراً، غير كاف، وأعتقد بأن البدائل كثيرة خاصة حين تكون الخشبة المسرحية معادلاً للحياة والظرف الذي نعيشه، والعمل يتسع كما هو الفن والأدب عموماً، فقوانينه ليست صارمة بل فضفاضة تستوعب الجديد كما تطور القديم وتستخدم الموروث وتداعب به وجه الحاضر، وإذ لم يكن كذلك فأين هو الإبداع؟

ومن الضروري هنا أن نذكر بأن العرض كان بحاجة للكثير من الحركة والكثير من الفعل الذي بقي ناقصاً، اكتفى بالتلميح والتلويح من بعيد دون أن يجعل من الفعل فعلاً، بل تجاهل أصغر الفرج مع أن الفرجة ولو كانت قصيرة وبسيطة فهي من حق الجمهور ليستمتع ويكون مشدوداً مع العمل، وما يسجل للعرض هو استهلاله بصور عديدة لكبار المسرحيين في سورية، منهم محمد الماغوط ووليد إخلاصي ونهاد قلعي وسعد الله ونوس وممدوح عدوان وفواز الساجر ويوسف حنا، واستخدامه لتقنية الحوار بين الممثل والممثلة عبر الشاشة، ومن ثم تلك الكلمات التي وضعت حين يدق هاتف الممثل المحمول حيث تأتي مثل بلسم نعالج به تصدعات الروح وجراحات الجسد هذه الأيام، والتي يقول صاحبها الونوس سعد الله: (نحن محكومون بالأمل وما يحدث الآن ليس نهاية العالم) وتلك النهاية التي ختم بها العرض كانت موفقة وجميلة، حيث خرج عوض وهو يوصي المرأة بتمثال القباني، وأن تحافظ على الأمانة. ونهاية، وللأمانة أيضاً، لابد من القول بأن كل عمل ثقافي وفني، بما فيه هذا العرض، هو نجاح وتفوق وصرخة من أجل أن نعيش تحدياً للحزن وقهراً للموت والشدائد.

العدد 1104 - 24/4/2024