قسطاكي الحمصي ذلك الرجل النبيل

وأنتَ تسير على مهل، تمر بك أسماء شوارع، أو تُذكر أمامك أسماؤها، ويمر بك في أحد الأيام اسم شارع جميل، هادئ، تزينه أبنية وفيلات في أحد أحياء حلب الشهباء، يحمل هذا الشارع اسم (قسطاكي الحمصي) فتتوقف وتتساءل – بالسين والهمزة لا بالثاء والقاف- قسطاكي الحمصي… من يكون هذا الرجل النبيل الذي نال شرف أن يُطلق اسمه على شارع عام؟ وهل له الحق في ذلك؟ وتكتشف بعد درس قيمة هذا الشاعر الماجد، وتقرأ له هذا البيت:

قومي إذا ما أيسروا أنا موسر ..|.. وإذا شكوا ألماً فتلك كلومي

(قومي إذا ما أيسروا أنا موسرُ…)! يا له من رجل نبيل حقاً! (وإذا شكوا ألماً فتلك كلومي…)! أنت هنا أمام شخصية شعرية وإنسانية فذة، جراح الناس جراحها، وهموم القوم همومها، وهذه أعلى مراتب الذوبان في الوطنية الحقة، نعم، هذه النفوس كبيرة تعبت في حملها الأجساد، كان كافياً لنا أن نسمع من قسطاكي الحمصي هذا البيت من الشعر لنكتبه بماء الذهب ونحتفظ به للأجيال الفتية الناشئة القادمة. ونقول له مع المتنبي القائل:

 أنت الذي نجحَ الزمان بذكره ..|.. وتزينت بحديثه الأسمار

وما مقالنا اليوم إلا حديث سمَّار، أو حفلة سمر، في سيرة هذا الرجل النبيل من خلال كتاب (قسطاكي الحمصي… أديباً وشاعراً وناقداً) تأليف الأستاذ محمد التونجي.

(2)

عاش قسطاكي الحمصي بين قرنين رسما مصير الأمة العربية. وقد سجل العرب في هذين القرنين صفحتين من الكفاح المشرف، كانتا رمزاً للبطولة والوطنية. خُتمتْ صفحة الكفاح الأولى بعد تضحيات جسام، وجهد جهيد، بطرد السلطان العثماني من البلاد العربية، لتتنسم عبير اليقظة والحرية والحياة المتفتحة بعد ظلام دامس خيم زمناً طويلاً وترك الوطن في جَهَد وعوز. فقد اندلعت الشرارة الأولى من جزيرة العرب، أشعلها رجال عاهدوا الوطن أن تبقى متقدة حتى يمحوا الترك والتركية من بلادهم، وسرى لهيب الثورة بين الأقطار وكأنه النار في هشيم يابس. ويُخطئ من يعتقد أن الثورة العربية قامت على أكتاف الحسين بن علي المعروف بالشريف حسين، فالحقيقة أن تلك الثورة كانت ثورة الشعوب العربية الواقعة تحت نير الحكم العثماني، وما هذه الثورة إلا نتيجة الغليان الذي كان يمور به المرجل العربي. ولئن كانت أصوات العرب في البدء خافتة، ولئن كان تقوم على أيدي أفراد ألهموا الوطنية وحرية الفكر فلأن الجمود الفكري الذي نشرته التركية في البلاد استطاع أن يُرجئ موعد الثورة لا أن يخمدها. وأجمع العرب على أن الترك هم الذين جرّوا الأمة إلى الثورة جراً، وأغاظوهم لإعلانها، فكان أن أُعلنت، ونُفذت. وقد كان إبراهيم اليازجي -وهو أستاذ قسطاكي الحمصي وصديقه – أحد الرجال الأوائل الذين سعوا إلى إيقاظ العرب من غفوتهم على أبواب قصور السلاطين العثمانيين، بقصيدته المشهورة ومطلعها:

تنبهوا واستفيقوا أيها العرب ..|.. فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب

(3)

وتبدأ صفحة الكفاح الثانية بدخول جيوش الانتداب أرض الشام والعراق، ويعود المرجل العربي يغلي ويزمجر وتتصاعد الهمم، ويعلو الثوار القمم . وينهض الأدباء والخطباء ويتبعهم الشعراء وكلهم يريد خلع ثوب الانتداب الضيق مهما كلف الثمن. وامتد احتلال فرنسا لسورية ولبنان، وأخذت تتصرف في أمورهما على هواها، وراحوا في تشقيق سورية دويلات ومذاهب وقصدهم السيطرة ولكن دون جدوى. ولئن تمكن الفرنسيون من إخماد الثورة السورية التي أعلنت عام 1925 إلى حين، فإنهم لم يتمكنوا من إخماد ألسنة الشعراء اللاهبة التي فعلت فعلها الكبير في إذكاء نار المقاومة. وتعتبر قصائد خليل مردم، خيرالدين الزركلي، الشاعر القروي، قسطاكي الحمصي، من أبرع ما ختمت به ملحمة الثورة السورية وأصدق ما حدَّثت بها صفحات الكفاح. وقد قُدّر لقسطاكي الحمصي الحلبي أن يحيا الصفحتين ويسطر فيهما القصائد الصارخة في وجه السلطان العثماني والانتداب الفرنسي، ويكتب المقالات ويجهر فيها بالحثّ على نهضة الأمة والحفاظ على لغة الأجداد. وها أنا ذا أكاد أسمع صدى كلماته:

إن يحسب الجاهلون اليومَ يومُهم ..|.. فالعقل فينا لهُ رهطٌ وأجنادُ

ما فرقَ التركُ فيما بيننا وهم ..|.. لم يدّعوا نسباً للعرب ينقاد

نرومُ للحكم قوماً لا تغرُّهم ..|.. إلى المناصب أطماعٌ وإرعادُ

نرومُ للحكم قوماً ليس يُرهبهم ..|.. في جانب الحق إبراق وارعاد

ترشحوا للمعالي وهي راغبة ..|.. عن مثلهم ولها في الحي آسادُ

(4)

في سيرة قسطاكي الحمصي ينتهي نسبه إلى ميخائيل مسعد الحمصي، وهو الجد الأعلى الذي سكن حلب مهاجراً من حمص عام 1517. وكان من هذا البيت في دمشق أسرة أنطون الحمصي وكان جدها ميخائيل مسعد أيضاً. ولد قسطاكي الحمصي في فجر الرابع من شباط عام 1858 وله من الإخوة صبيان، وبنتان، ولم يبلغ الخامسة من العمر حتى فقد أباه فكفلته أمه. كان جده لأمه (عبد الله بن جبرائيل الدلال) محباً للعلم والأدب، وكان بيته منتدى الفضلاء، ومثابة النبلاء، وكان قسطاكي، وهو صغير، يتردد على بيت جده، فيسمع ما يدور من مساجلات ومناقشات أدبية فينهل منها ويتلقفها، فانطبعت نفسه على حب الأدب. وقد كانت الأسرتان اللتان نشأ منهما قسطاكي وعاش بينهما أسرتين مشهورتين في مدينة حلب بالجاه العريض، والغنى الوافر، والمحافظة على التقاليد الموروثة، فكان كل ذلك له التأثير الكبير على نشأته. كان عندما يزور بيت جده لأمه ويسترق الأسماع في أخبار الأدب، يعود إلى نفسه ويجرب حظه في قرض الشعر. ويحكى أنه قال الشعر مذ كان في الثالثة عشرة من عمره وقبل أن يدرس العَروض والصرف. غير أنه بدأه هاجياً أحد زملائه التلاميذ في المدرسة فأرشده مديره إلى رسالة الشعر، وإلى أن الهجاء آخر غرض يُطرق عادة، فأطاع. وراح ينظم المقطوعات والقصائد، فكانت بكورة شاعريته سخية الجودة، غنية الحياة.

(5)

من صفاته الشخصية: حاضر البديهة، طلق اللسان، في أذنه وَقْر أتاه في أخريات أيامه، يُحب أن يقرأ على زوّاره ما يكتب، ويزيد إذا طلبوا المزيد. ويذكر الأب (توتل) أنه حينما كان -توتل- طفلاً يلعب مع أقرانه في حي (الصليبة) ويدخل قسطاكي الحيَّ، يرى في يده قضيباً خيزرانياً مروّساً بقبضة فضة ينكت به الأرض نكتاً، وهو يسير بقامته المعتدلة المنتصبة، ثابت الخطوات، مشرئبَّ العنق إلى العلاء، يُحلّي وجهه عُثنونٌ مكتثٌ- سكسوكة جميلة متصلة بالشاربين- ووجهه هائم، في جو من التفكير الدائم.

 ويقول الأب توتل عن هيبته: يستوقف نظرنا، فنحترمه، ونجفل عن اللعب -نتوقف- ونسكت. وعند باب بيته كانت بناته شيرين وعلية وليندا يجلسن على الكراسي للتسلية، ولما يقترب الأب منهنّ يقمن احتراماً. وبعد مدة هجر حيَّه الذي نشأ فيه، ليبني بيتاً جميلاً في شارع العزيزية فيسمى ذلك الشارع بعدئذ باسمه.

(6)

لقد عزفت قيثارة هذا الأديب ستين عاماً كلها في نضال ووطنية وتأليف. وكان لحياته تأثيرها البالغ في نفوس أهله وأحفاده من الناحية الأدبية والأخلاقية، فقد اقتبست إحدى بناته الشعر عنه، فنظمت قصائد بالعربية والفرنسية، فيها العمق وفيها التفكير. كما أن ابنته ليندا ألقت محاضرات أدبية واجتماعية في بعض المنتديات تدل على نضوج دراستها، وكسبها من والدها. حتى أصهاره أدباء وشعراء كالأستاذ (إلياس الغضبان) والمحامي (فتح الله صقال) الذي شغل منصب وزارة الأشغال العامة والمواصلات، وصاحب مجلة (الكلمة) وهو الذي دافع عن المناضل إبراهيم هنانو. نجد من كل ذلك أن الأسرة كلها ذات حظوة في الحياة الاجتماعية والفكرية من الأجداد، انصبّت في قسطاكي ومنه تفرعت هذه الثقافات وتوزعت روحه على أقربائه وأحبابه.

(7)

أختم حديثي هذا عن سيرة حياة الأديب قسطاكي الحمصي برسالة طريفة أرسلها محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي يقول فيها:

سعادة العلامة الأستاذ

قسطاكي بك الحمصي المحترم!

تلوت باسمكم أمس في ردهة المجمع العلمي محاضرتكم اللطيفة التي حملت عنوان (إعراس المأمون ببوران) وطويت بعض جمل منها رعاية لضيق الوقت فوقعت لدى الحضور- وكان يُقدر بنحو أربعمئة وخمسين شخصاً- موقع الاستحسان، وقابلوها بالتصفيق. زادكم الله علماً، وزاد الأمة بعلمكم وأدبكم نفعاً، وستنشر محاضرتكم الغنية في مجموعة محاضرات المجمع العلمي التي نشرع بطبعها عما قريب، راجياً أن لا تخلو من آرائكم وأبحاثكم النافعة… ودمتم بصحة.. مولاي!

 دمشق في الثلاثين من أيلول 1923

العدد 1105 - 01/5/2024