مَا مرَّ عامٌ.. لم نكنْ فيه جياعاً وعرايا…

ولقدْ أَبِيتُ على الطَّوَى وأَظَلُّهُ ..|.. حتّى أنال به كريم المَأْكَلِ

«عنترة»

الشاعر (أمل دنقل) الذي التزم قضايا أمته العربية الكبرى…والتحم بمشكلات مجتمعه وإشكالاته المختلفة.. وكان على تواصل لصيق بحياة الإنسان العربي جملة وتفصيلاً، ذهب إلى أن الشعر يجب أن يكون في موقف المعارضة… لأن الشعر هو حلم بمستقبل أجمل، والواقع لا يكون جميلاً إلا في عيون السذج. والشاعر (بدر شاكر السياب) ذهب شعرياً، على وجه من الوجوه، إلى هذا المذهب، فقد أحس بحركة التاريخ، إن لم نقل وعاها، والتزم قضايا الإنسان الكبرى (على الأقل في مرحلة من مراحل حياته)، وأضحى وجدانه الفردي وجداناً جماعياً، فهاجر من مناخه الزماني والمكاني خارج ذاته إلى مناخ إنساني رحب داخل ذاته، ومن ثم تحوّل إحساسه الفردي (وهو الذي اضطهد وشرّد…) بالظلم والاضطهاد والموت والفاجعة والجوع.. إلى إحساس بظلم الشعب واضطهاده وموته وفاجعته وجوعه.. ومن ثم أدرك أن الخلاص الفردي من كل ذلك لا يمكن أن يكون فردياً، فخلاص الفرد يكمن في خلاص الآخرين، في خلاص الجماعة والشعب.. (جميعهم أو لا أحد، كلّهم أو لا شيء. الفرد وحده لن يستطيع خلاصاً…) على حدّ تعبير الشاعر والمسرحي الألماني المبدع (بروتولت بريشت).

يقول بدر شاكر السياب في مقطع من قصيدته الكليّة (أنشودة المطر):

ومنذُ أنْ كنّا صغاراً، كانتِ السّماءْ

تغيمُ في الشتاءْ

ويهطلُ المطرْ

وكلُّ عامٍ – حينَ يعشبُ الثرى – نجوعْ

ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوعْ

مطرْ..

مطرْ..

مطرْ…

مفارقة تراجيدية واضحة تماماً بين الخير والجوع في هذا المقطع الشعري المكثف: السماء/ المطر تجود، وتعطي الأرض خيراً، والأرض تأخذ من السماء فتعطي جوعاً مقيماً..؟ إنها معادلة درامية مأساوية، أحد طرفيها مخفيّ، ما هو ؟ إنه الاستغلال والظلم… إذاً: خير/مطر واستغلال يساوي جوعاً وظلماً.. ما الحل ؟ المطر الحقيقي لا يحل المعادلة، فلا بدّ من قدوم مطر جديد (المطر الرامز) يُطَهّر الأرض من الاستغلال والظلم… فتستقيم المعادلة: خير وعدل يعطي حياة إنسانية كريمة…

***

بأدب واعتذار جَمّ سأستعير جوهر كلمات المبدع محمد الماغوط، لتكون لسان حالي الذي لا شبهة فيه، والذي هو الحق والحقيقة واضحة كما الشمس في عزّ الظهيرة. فقد عانيتُ في حياتي كل أنواع الجوع بلا استثناء: الجوع إلى الحبّ، إلى الحرية، إلى السفر، إلى الاستقرار، وعلى رأسها جميعاً الجوع إلى الرغيف… ولكنني لم أشعر بقسوة الجوع وبريق أنيابه مثلما شعرتُ وأنا أقرأ رواية (السكير) لأميل زولا، إذ يصف الفقر والعَوَز وجرض اللعاب ومغص البطن، بصدق وواقعية قلّ مثيلها جعلتني أنهض بين صفحة وصفحة إلى المطبخ لأتأكد من وجود خبز وطعام في بيتي. إنّه يحلل مشاعر امرأة حبلى ضالة في أزقّة باريس الخلفية دون أنْ تتبلَّغ طعاماً منذ أيام، وحولها باريس، بل أوروبا بأسرها تضج بالذهب والحفلات وأنهار الخمر… يحلل كل هذا بأسلوب يثير الرعب والذعر من المستقبل. ليس في الرواية كلها كلمة واحدة مباشرة، لا مع الفقراء، ولا ضد الأغنياء، إنها تعرض الأحداث بحياد، ولكن بتأثير لا يجاريه حدّ السيف إذ مهما كان القارئ بليد الحس، عديم الاهتمام بمن حوله، لا يجد نفسه بعد إغلاق الكتاب إلا وهو يمدّ يده إلى أقرب كرسي أو مقعد ليهجم به إلى حيث يوجد جوع وظلم في العالم…

 *** *** ***

 الجوع، الفقر، الحرمان، البؤس، الظلم… ليس من السماء، فمن أين جاء إذاً ؟

 جاء من الاستغلال.. من الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. جاء من الجشع والطمع والفساد والأنانية.. جاء من التفاوت الطبقي، واللامساواة، ومن عدم توزيع الدخل الوطني وفق مبادئ العدالة الاجتماعية…

 ما العمل ؟

 أنكتفي بالقول: أيُّها الجياعُ والفقراءُ والبؤساءُ..! أيُّها المظلومون.. أيُّها المحرومون..! طُوبَى لكم، طُوبَى.. الغِبْطة والسعادة والحُسْنَى والخير.. وكل مُسْتَطَاب من غنىً بلا فقرٍ، وعِزٍّ بلا زوالٍ، وبقاءٍ بلا فناءٍ.. لكم هنالك في ملكوت السماوات..؟

 ما العمل..؟

 أنكتفي بالتعزية على مذهب جبران خليل جبران، ونعزي الجياع والفقراء والمظلومين.. قائلين لهم: إن حُرمتم أرزاق الدنيا في (مدينة الأموات) فإن موطنكم في السماء..؟

 ما العمل..؟

 أنكتفي بأن ندعو ــ كما دعا السيّد المسيح ــ الموسر إلى منح الفقراء نصف ما يملك… وبأن نتوسل الغني كي يَتَصَدَّقَ ويتزكَّى ويَتَطَهَّرَ، فيُعْطي الفقير ما يعطي للمَثُوبَةِ والقُرْبَةِ إلى الله..؟

 ما العمل..؟

 هل نصلي صلاة استسقاء..؟ هل نركع خاشعين، ضارعين..؟ وهل نترك الدموع تجلل هاماتنا المتعبة، ونرفع أيادينا المغلولة إلى السماء كي تمطرنا خبزاً وخيراً وعدلاً.. وحياة إنسانية حرّة كريمة..؟

 ما العمل..؟

 أنستصْرِخُ ضمائر الحكام المستبدين، والأقوياء الباغين..؟ أنناشدُ أنظمة حوّلت البلاد إلى مزارع، وجعلتنا أقناناً أذلّاء، نعيش عيشةً بيولوجية بهيمية..؟

 أنرسلُ نداءات إحسان وإغاثة وشفقة واستعطاف إلى الذين يسرقون قُوْتَنا، وينهبون خيراتنا، ويسطون على أرزاقنا، ويستغلوننا جسدياً وعقلياً، ويدوسون على رقابنا وكراماتنا.. ويتركوننا، وأطفالنا، على قارعة الطريق جياعاً.. عرايا…؟؟

 ما العمل..؟

 ما العمل..؟

العدد 1105 - 01/5/2024