رهين المحبسين تساوق الخصائص الفردية مع سمات العصر

بدعوة من ملتقى جرمانا الثقافي حاضر الباحثان محمد خالد العمر وسمير مطرود مدير الثقافة في محافظة ريف دمشق حول أبي العلاء المعرّي: شخصيته ومكانته الشعرية والفكرية في الثقافة العربية الاسلامية، وقد شارك الحضور بمداخلات أغنت الموضوع من جوانب مختلفة تتعلق بشخصية المعري الإشكالية.

أدار الجلسة الشاعر الدكتور نزار بريك هنيدي رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب في ريف دمشق، وبناء على طلب من المحاضر سمير مطرود قرأ الشاعر هنيدي قصيدة كتبها عام 2006 وألقيت في مهرجان المعرّي، ما زالت تحمل في مضامينها راهنيتها وكأنها قد كتبت استجابة لأحداث اليوم.

  *     *    *

ما الحاجة والفائدة من استحضار شخصية تاريخية من عمق الماضي للتحدث عنها، في زمن تطغى فيه الهمجية، وينتشر الفكر الهدّام، وتشتد العدوانية متجلية بأبشع صورها في قطع الرؤوس وتخريب المتاحف وتدمير المساجد والكنائس وتهديم الأوطان؟.

مما لا شك فيه أن مكانة أبي العلاء المعرّي في  التجربتين الشعرية والفكرية في الثقافة العربية لا يمكن لباحث أن يتجاوزها، لما قدمته من إنتاج شعري ونثري وفكري، فشخصيته مركبة لا تخلو من تناقضات معرفية ساعدت على تكوينها طبيعة العصر والمستوى العلمي والمعرفي المحايث له.

لا تخلو شخصية أي مبدع في الفن والعلم من تناقضات، فالتناقض جوهر الشخصية الإنسانية، فكيف إذا كانت كشخصية المعري، التي تساوق فيها تكوينه النفسي والخلقي مع أبرز أحداث عصره المضطرب والمتوتر، فشخصية المعري ونتاجه الأدبي والفكري، دون شك، من ثمار العصر الذي عاشه في تفاعله مع مكوناته الشخصية ومزاجه العام وثقافته الغنية المتنوعة.

إبراز شخصية تاريخية وإعادة استحضارها يلبّي حاجة موضوعية في الراهن، فإذا لم نستطع تحيين الشخصية والاستفادة من تجربتها بما يخدم المعيش ويساهم في تشكيل المستقبل، فما جدوى استحضارها؟

شخصية المعرّي في الثقافة العربية قابلة للنمذجة، لأنها استطاعت التقاط القيّم تاريخياً في عصرها، وفي استشراف امتداداته المستقبلية، وهو من الشعراء العرب القلائل في العصور الغابرة الذين امتلكوا رؤية شبه متكاملة للحياة وللمجتمع وللطبيعة.

كان المعرّي مواجهاً وجريئاً في موقفه من قضايا عصره ومجتمعه، ويكاد يشكّل ظاهرة فريدةً في ابتعاده كشاعرٍ عن المديح وتملّق الأمراء وأصحاب الشأن، ويتصف بزهده في الحياة، وترفّعه عن الصغائر، حتى أنه رفض الخلد لو حبي به فرداً، كما تمنّى أن يكون المطر عميماً أو لا يكون. لعلّ من أهم مكونات شخصية المعرّي التي أهّلته لهذه الرؤية، ثقافته المتنوعة من هندية ويونانية وفارسية وسريانية وعربية إسلامية، فهو خير من يمثّل الانفتاح على الثقافات العالمية السابقة عليه والمعاصرة له، بعد الشاعر المتفرد أبي تمام المؤسس لهذا الاتجاه.

ما زالت صرخة المعرّي مدوّيةً حتى يوم الناس هذا: (لا إمام سوى العقل)، هذه الصرخة التي نحتاجها  اليوم كما احتاجها عصر المعري، وقد تبدو الحاجة إليها اكثر إلحاحاً وأعم جدوى، لما نعانيه من ردّة  فكرية رجعية متخلفة.

لا يمكن فهم عقلانية المعرّي بمعزل عن شكّه، فالشكّ عنده هو الوجه الآخر لليقين، ومواجهته لعصره بالعقلنة تنفي المرجعية النقلية والاحتكام إلى الأسلاف في معالجة قضايا الواقع، فمن السخرية أن يحكم الأمواتُ الأحياءَ.

كان المعرّي يعيش ما يقوله، ويقول ما يعيشه، وبمعنى آخر، لم يعرف الازدواجية بين قول وفعل منسجماً مع نفسه، والعلاقة بين فكره وسلوكه تقصي التعارض أو مظاهر الانفصام، ساعده على ذلك طبعه على الاستقامة والصدق في مسلكه الاجتماعي.

ليس مهمّاً ان يكون المعرّي متديّناً مؤمناً او زنديقاً، او شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، أو كما وصفه المحاضر محمد خالد العمر بشاعر الشعراء وفيلسوف الفلاسفة، وإنما الأهم أن يكون صاحب رؤية وموقف، ممتلكاً مؤهلات الشعراء والمفكرين من ثقافة وموهبة وتجربة، وقد امتلكها المعرّي في شعره ونثره، ووجدنا في شخصيته تطابقاً بين سماته الفردية وأهم الخصائص العامة لعصره.

أهمية المعرّي وقيمته التاريخية الفكرية والفنية تكمن في رؤيته وبصيرته النافذة وتجاوزه عصره، وقابلية تجربته الفكرية والفنية للاستمرار ومساءلة الواقع، فقد كان معاصراً في زمانه وما زال حاضراً في جوهر مواقفه ودلالة تجربته حتى اليوم، فهو المبصر في ليله أكثر منا في نهارنا.

نحن بحاجة اليوم إلى جرأة المعرّي في مواجهة واقعه، وفي انفتاحه، وتعدد مرجعياته الفكرية، وتنوع ثقافته، ومخالفته لما اعتاد عليه الناس من عادات وقيم بالية تعيق التقدم والدخول في العصر.

ليكن كما علّمنا المعرّي: الشكّ طريقنا إلى اليقين، والعقل هادينا إلى المعرفة والعلم، والانفتاح والتعدد وقبول الاختلاف من أهم مكونات شخصيتنا.

بذلك نكون أحفاداً للمعرّي وورثة لرسالته.

العدد 1105 - 01/5/2024